العجوز والبحر

TT

قبل خمسة آلاف عام عاش حكيم اسمه زينون، دعا الناس إلى التحرر من الانفعال، ومن كل حزن أو فرح أو رغبة. دعا لأن يخضع الإنسان من غير تذمر لحكم الضرورة.

منذ أيام من دون مقدمات شدني أرنست هيمنغواي للتأمل في معاني ما دعا إليه زينون. فقد قرأت رواية العجوز والبحر التي نال بها هيمنغواي جائزة نوبل للأدب في عام 1954. وهي رواية تعتبر من كلاسيكيات الأدب الأميركي الحديث, نشرت بنجاح منقطع النظير في مجلة «لايف» عام 1952، ثم نشرت في كتاب بيعت منه خمسة ملايين نسخة. وما زال ورثة هيمنغواي يجنون أرباحا من حقوق النشر.

بين صفحات الرواية التي لا تزيد عن مائة صفحة جسد هيمنغواي معركة ملحمية بين صياد كوبي عجوز وسمكة مرلن هائلة الحجم في عرض البحر.

سنتياغو عجوز لم يتبق له سوى ذكريات بعيدة من طفولته في أفريقيا. لم يعد يتذكر سوى حرية أشبال الأسود تمرح على شاطئ أفريقي بعيد. لم يعد له رفيق سوى صبي مخلص تتلمذ في فنون الصيد على يديه.. يزوره كل يوم ومعه القهوة الساخنة وما تيسر من طعام بعد أن هجر سنتياغو الشباب والحظ السعيد. فها هو يخرج للصيد يوما بعد يوم ويعود خاوي الوفاض حتى بلغ عدد رحلاته 84 رحلة واعتبره مجتمع القرية منحوسا. ومن ثم أمر والدا الصبي ولدهم أن يبتعد عن العجوز المنحوس. غير أن شيئا من وفاء التلميذ للمعلم دفع الصبي لزيارة معلمه يوميا وتشجيعه على المضي، مؤكدا له أنه ما زال الصياد الأكثر خبرة وأنه هو تلميذه الذي يتعلم منه الكثير.

يخرج سنتياغو إلى البحر متسلحا بالتفاؤل والتمني ويسترد إحساسا بالقوة ووضوح الرؤية. بعد يوم في البحر تبتلع الطعم سمكة مرلن هائلة الحجم فيبدأ صراع البقاء: فإما تقاوم السمكة الأسر والموت فتهزم سنتياغو وتهرب وإما يقاوم سنتياغو الشيخوخة والجوع والبرد والنحس. ويشهد القارئ جانبا من المعنى الذي يكني عنه هيمنغواي من أن في مقاومة الموت نبلا وفي مقاومة الخصم شجاعة لا يجب أن تنحط إلى ازدراء أو بغضاء. وحين يستبد به الجوع والألم لا يشكو ولا يشعر بالفرح بل يناجي خصمه ويعتذر له ويعتبر أنهما شقيقان. ولكن صراع البقاء يجب أن يستمر. ويتحمل سنتياغو ثقل حبال الصيد ومقاومة السمكة التي تجذب قاربه بعيدا عن الشاطئ ثلاثة أيام بلياليها وهو قابض على الحبال بعزم وقوة إلى أن تحفر في بطن يديه جراحا غائرة. لا يأكل ولا ينام لأنه يحلم بالعودة إلى الشاطئ منتصرا.

سنتياغو يناجي ربه ويعد بالصلاة الخاشعة. ويبلغ وهنه وهذيانه مبلغا يصور له الأمر على أنه حلم طويل. ولكنه لم يكن حلما لأنه ينجح في قتل السمكة بالحربة ويربطها إلى جانب القارب ويفكر في أن لحمها سوف يطعم كثيرين. وهو لا يدرك بأن أسماك القرش أيضا تبحث عن طعام. وتظل تغير على سمكته حتى تأتي عليها تماما ولا تترك إلا الرأس والعظام.

يعود سنتياغو إلى كوخه وحيدا ضعيفا والناس نيام. وفي الصباح يزوره تلميذه الوفي فيسيل دمعه إشفاقا عليه. ولا يتبقى من حلم سنتياغو إلا هيكلا عظميا لسمكة يعجب الصيادون لحجمها الافتراضي وينظر إليها السياح بعين غير عارفة لما يخفيه البحر العظيم.

هيمنغواي نال جائزة نوبل للأدب. ولكنه مات وحيدا في عام 1961 بعد صراع مع المرض وإدمان الكحول.

ترى، أي فكرة وأي انفعال دفعه لأن ينهي معركة الحياة بيده؟