نحن في السلم للحسان عبيد

TT

في ظني أن أكبر وليمة في التاريخ هي التي أولم بها أحد المرشحين الأميركيين للفوز بإحدى الولايات الأميركية، ولم يقل عدد المدعوين في حينها لتلك الوليمة (الحاتمية) عن ثلاثمائة ألف، ما بين رجل وامرأة، وذلك في نهاية القرن التاسع عشر.

واقتضى منه هذا ما لا يقل عن خمسمائة خروف، وثلاثمائة عجل، ومائتي خنزير، وخمسة عشر جاموسا، وأربعين غزالا، وعشرة وعول، وخمسة آلاف دجاجة، وأربعة آلاف ديك رومي، وألف أرنب، ومليون ضفدع، ومليون رغيف، ومليون فطيرة، وثلاثمائة برميل من «الجعة»، ومائة برميل من «النبيذ»، وخمسة أطنان قهوة، وخمسة أطنان من السكر، وخمسة أطنان من الملح، وألف كيلو من البهارات، وقد أعد هذه الوليمة جيش من الطهاة، وقام على خدمة المدعوين عشرة آلاف من السفرجية.

وأحلى ما في الموضوع أن ذلك النائب بعد كل ذلك الكرم غير المسبوق سقط في الانتخابات، وفاز عليه مرشح منافس لم يولم لأحد من المنتخبين ولا حتى بيضة واحدة.

أما أسخف من ذلك الموضوع فهو ما حصل لي عندما دعوت «نفسي» فقط لا غير في أحد المقاهي، وطلبت فنجانا من الشاي، وأخذ «الغرسون» يغريني بأن أتناول مع الفنجان قطعة من الكيكة التي يحسنون عملها، ومجاملة له وافقته على ذلك وأحضر لي طلبي، وبينما كنت أرتشف الشاي بهدوئي المعهود، وأقتطع «سلو موشن» من الكيكة (ثلاث قطعات صغيرة لا أكثر) لفتت نظري امرأة تجلس غير بعيدة عني وهي بالمناسبة (متعافية) ومتوسطة العمر، وكانت بين الحين والآخر تختلس النظرات لي، فخمنت يقينا أن تلك المرأة معجبة بي لا محالة، وأنها قد وقعت في «دباديب» أبو المشاعل، ولم يسم عليها أحد، ولا أكذب عليكم أنه قد داخلني شيء من الغرور، «وكرمال عيونها»، أو بمعنى أصح بنظراتها، قررت أن أطلب كوبا آخر من الشاي، وأخذت أنادي على (الغرسون) الذي لم يسمع ندائي، فاضطررت أن أقوم من مكاني وأبحث عنه حتى وجدته وطلبت طلبي، ورجعت (متبخترا) أنفض ريشي.

وما إن اقتربت حتى تفاجأت بأن تلك المرأة قد أخذت طبقي والتهمت الكيكة كلها تقريبا، ولم يتبق منها غير (نتفة) صغيرة، فأسقط في يد المسكينة، وهي لا تدري كيف تعتذر، ومدت لي الطبق بيد مرتعشة وهي تشير إلى (النتفة) الباقية تريدني أن آكلها، تبسمت لها محبطا وأخذت الطبق من يدها ووضعته على الطاولة، وعرفت أن نظراتها لم تكن ويا للأسف إعجابا بي بقدر ما كانت إعجابا بتلك الكيكة، وظنت هي أنني عندما ناديت على (الغرسون) وقمت من مكاني أنني ذهبت لكي أحاسب وأخرج، واستغلتها فرصة، وحصل ما حصل.

على أي حال فحالي مع هذه المرأة النهمة يختلف مع حال «العلوي» عندما حاصر دمشق، وكاد يحتلها، وكانت فيها امرأة مشهورة بالحسن، فقالت لأهل المدينة: «أنا أكفيكموه».. فخرجت وطلبت مقابلته، فلما حضرت بين يديه تكلمت قائلة: «ألست أنت القائل:

نحن قوم تذيبنا الأعين النجل.. على أننا نذيب الحديدا

طوع أيدي الغرام تتقاذفنا الغيد.. ونقتاد في الطعان الأسودا

فترانا يوم الكريهة أحرارا.. وفي السلم للحسان عبيدا»..

ولما قالت له ذلك ألقت «البرقع» من وجهها وقالت: «إن كنت عبدا للحسان اسمع وأطع وارحل».. «فتحلحلت صواميله»، ونادى بقومه للرحيل، وبعد عدة أيام أرسل لها ليخطبها، فوافقت على ذلك مشترطة عدة شروط، منها: أن يطعم أهل دمشق كلهم في ليلة زواجها، وألا يحكم دمشق غير رجل من أهلها.. فامتثل لشروطها طائعا وصاغرا.

فما أبعد «العلوي» عني، وما أبعد تلك الحسناء عن تلك المرأة الأكولة، الله لا يعطيها العافية، ويجعل الكيكة مطرح ما تسري «ما تمري».