لماذا عبد الله بن عبد العزيز؟

TT

«الملك عبد الله والحوار والسلام»، كان عنوان واحدة من ندوات مهرجان الجنادرية السنوي الذي تقيمه المملكة العربية السعودية منذ خمسة وعشرين عاما، ورغم زياراتي المتعددة للمملكة ولقاءاتي السابقة بخادم الحرمين، التي نشرت على صفحات هذه الجريدة في مرتين سابقتين، فإن هذه المرة هي المرة الأولي التي أدعى فيها إلى هذا المهرجان لأتحدث عن شخصية الملك عبد الله. وربما ظن المنظمون للندوات أن مجرد مقابلة الملك قد تعطي الإنسان معرفة بشخصيته وتمنحه الثقة في الحديث عنه وعن قرب. وهذا غير صحيح، لكننا في العالم العربي، ابتلينا بمدرسة الأستاذ فريد الأطرش في الحوارات السياسية: مدرسة «ما قالي وقلت له»، حيث يخرج الكاتب أو الصحافي من مقابلة ملك كبير مثل ملك السعودية أو مقابلة رئيس دولة كبرى، فيطلق بعضهم لخياله العنان، لينسج أوهاما عن المقابلة، في إطار «ما قالي وقلت له». وهو أمر، عزيزي القارئ، لا يحدث، أو على الأقل لم يحدث معي. فالمقابلة، هي إجابات على أسئلة، يسألها الصحافي أو الكاتب، فقط لا غير.

ربما من الممكن لكاتب متميز أن يلتقط الأجواء المحيطة باللقاء، أو أن يكون انطباعات حول لغة الجسد للملك أو للرئيس، من ابتسامة لسؤال، أو امتعاضة من سؤال آخر، رغم أن ذلك، في الغالب ما يكون صعبا، لأن مقابلة الملوك غالبا ما تحاط بهيبة تجعل الإنسان لا يدرك ما حوله تماما، وإن أدركه، فهو إدراك جزئي مشوه. أما ما نسمعه من الصحافيين من مدرسة «ما قالي وقلت له»، فهو بكل تأكيد، غالبا ما يكون نسيجا من خيال. فللسلطة معمار مخيف، يتملكك من أول لحظة دخول المكان، حتى خروجك منه. تلك مقدمة لا بد منها، حتى نتعامل مع ما هو آت بحذر شديد. كان السؤال في تلك الندوة بالنسبة إلي ليس مجرد الإشادة بمبادرات الملك عبد الله فيما يخص الحوار أو السلام، فما أكثر المبادرات التي تطلق في منطقتنا من الخارج أو تهبط علينا من الداخل، ولكن المهم بالنسبة إلي كأستاذ للعلوم السياسية، هو سؤال الاستمرارية، فقد سمعنا ورأينا الكثير من المبادرات التي ظهرت ثم اختفت، وبالسرعة نفسها، كما النجم الذي يسيل من السماء، بلغة العوام، ثم يختفي في لمح البصر، الفارق بين أي مبادرة وأخرى، هو مدى وجود دعائم سياسية وشعبية لتلك المبادرة تمنحها الاستمرارية، فإن لم تؤيد المبادرة بدعم شعبي في الداخل فهي لا تساوي الحبر الذي كتبت به. وهذا ما سأحاول تطبيقه على مبادرات الملك عبد الله بن عبد العزيز المختلفة.

الملك عبد الله بن عبد العزيز قام في رأيي بثلاث مبادرات أساسية في موضوع الحوار والتصالح، مبادرة الحوار الوطني لمصالحة القوى المختلفة داخل المجتمع السعودي نفسه، سنته وشيعته، نسائه ورجاله، صغيره وكبيره، التي أطلقها خادم الحرمين عام 2004، والتي فتحت المجال أيضا لحوار حول السياسات العامة، من تعليم وصحة وخلافه، وهذا أمر لم يسبقه إليه أحد في الداخل السعودي. أما المبادرة الثانية، فكانت على المستوى الإقليمي، عندما أطلق مبادرته للمصالحة في قمة الكويت الاقتصادية عام 2009، التي اتسع فيها صدر الملك للجميع، من عقلاء العرب وغير عقلائهم. أما المبادرة الثالثة فكانت على المستوى العالمي في مبادرة حوار الأديان التي أطلقها من فوق منبر الأمم المتحدة عام 2008، والتي تبنتها الأمم المتحدة بعدها كأساس للحوار بين الثقافات والديانات، واستخدمتها كمصل مضاد لما طرحة صامويل هنتنغتون حول صراع الحضارات.

إذن، فقد تحرك الملك في دوائر ثلاث، دائرة داخلية سعودية (في الحوار الوطني)، ودائرة إقليمية (في المصالحة العربية)، ثم الدائرة العالمية (في حوار الأديان والثقاقات). هذا إضافة إلى مبادرته السياسية لحل النزاع العربي الإسرائيلي، التي أطلقها في بيروت عام 2002، وتبنتها الدول العربية مجتمعة في قمة بيروت، لتصبح فيما بعد معروفة بـ«المبادرة العربية للسلام».

والناظر إلى مبادرة حوار الأديان ومبادرة السلام معا، يدرك حصافة الملك السياسية، فمبادرة حوار الأديان تمثل السياق الثقافي لمبادرة السلام، بمعنى أن مبادرة حوار الأديان أفسحت المجال أمام مبادرة السلام، وحررتها من القيود، إذ فصلت الديني عن السياسي فيها، أي إن النزاع العربي الإسرائيلي تحول من خلالها إلى صراع سياسي فقط، فقد جنبته مبادرة حوار الأديان الشق الديني القابل للانفجار، الذي من شأنه أن يعقد الأمور. وبينما تسعى مبادرات الملك لفصل الديني من السياسي في النزاع العربي الإسرائيلي، نجد أن حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة تحاول أن تقحم الدين في الصراع مرة أخرى، بغية التهرب من التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية، فها هي حكومة نتنياهو تعلن زيادة المستوطنات في القدس الشرقية، وهؤلاء هن المجندات الإسرائيليات يدخلن الحرم الشريف ويعقدن الموقف. والناظر إلى تلك التعقيدات، يفهم الأهمية في فصل الديني عن السياسي في مبادرة الملك عبد الله حول حوار الأديان والسلام، وجعلهما مبادرتين مختلفتين. ولكن ماذا عن قدرة مبادرات الملك عبد الله على الاستمرار؟ مبادرات الملك عبد الله سيكتب لها الاستمرار لسببين أساسيين: الأول هو كاريزما الملك، والسبب الثاني هو قدرة الملك على نقل الكاريزما الشخصية إلى مؤسسات الدولة لتدعم استمرار هذه المبادرات.. وهنا دعني أفسر ما أريد قوله.

في ظروف تاريخية معينة يحتاج البشر في أي مجتمع من المجتمعات، ليس المجتمع السعودي وحده أو العربي وحده، إلى قيادات تتلخص فيها منظومة القيم التي يعتز بها ذلك المجتمع. وفي الحالة العربية التي بدت فيها القيم العربية مهددة من الخارج وعرضة للتآكل من الداخل، يبحث العرب، وباستمرار، للتجمع حول أي رجل أو عمل يرمز إلى تلك القيم، وربما هذا ما يفسر انجذاب كثير من العرب للمسلسل التلفزيوني «باب الحارة»، لأنه جسد لديهم بعض القيم المفقودة، مع الفارق. فالعربي اليوم يبحث عن قيم الصدق والشهامة والفروسية التي تعلمها في المدارس، لأنها مكون أساسي في الشخصية العربية. في الوقت ذاته الذي يتعلم فيه العرب تلك القيم، هم أيضا يرون فجوة بين ما سميته «ماضي الافتخار وواقع الاحتقار»، وعندما يجيء فرد أو قائد ويملأ هذا الفراغ ويجسر الهوة بين قيم الماضي والواقع المعاش، ينجذب إليه العرب، وهذا ما جسده الملك عبد الله عند السعوديين بشكل خاص، والعرب والمسلمين بشكل عام. لذا حظي أخيرا بلقب أكثر زعماء المسلمين شعبية. وقد لا أستطيع تفسير انجذاب العرب والمسلمين بأكثر من القول: إن جاذبيه الملك عندهم ترتبط بالمملكة العربية السعودية، مكانا ومكانة، فهي أرض الحرمين الشريفين، وهي، ربما، أقوى دولة إسلامية الآن من حيث الاقتصاد، إضافة إلى ما قلته عن شخص الملك ذاته. لكن تبقى كاريزما الملك على مستوى الداخل السعودي وقدرته على نقل هذه الكاريزما إلى مؤسسات الدولة هي ما أوجد ذلك التأييد الشعبي الكبير لكل مبادرات الملك. وفي السعودية يضع الشباب صور الملك على سياراتهم، وتخيط الفتيات صوره على عباءاتهن. وقبل واحدة من المقابلات الصحافية مع الملك، التي حاولت أن أعد لها من خلال محاولة معرفة رأي السعوديين في ملكهم، قال لي أحد السعوديين في جدة، انظر ماذا حدث منذ مجيء هذا الرجل إلى الحكم، جاء معه الخير، تضاعفت مداخيل البترول، وتضاعف الدخل، الدنيا وجوه، وعبد الله هو وجه الخير.. ما قاله الرجل يوحي بأن الله تعالى قد وهب الملك نوعا من البركة أو القبول، أو هكذا يرى الناس، وهذا ما سماه ميكيافيلي في كتابه المعروف «الأمير» بالفرتونا أو حسن الطالع، الذي يجعل الأمير أو الملك مقبولا لدى شعبه، هذا القبول أيضا، المصحوب بإسقاط لأحسن ما في قيم إي شعب أو حضارة على شخصية القائد، هو ما سماه عالم الاجتماع الألماني الشهير ماكس فيبر بالكاريزما، التي تجعل القائد قادرا على أن يجر شعبه معه لتأييد سياساته. وهذا ما استطاع الملك عبد الله فعله في السعودية. «لو قال الملك للسعوديين ارموا أنفسكم في البحر، سيرمون» هكذا قال لي سعودي آخر في الرياض، هذا التأييد الشعبي الجارف للملك عبد الله هو ما يجعل مبادراته قابلة للاستمرار. ورغم هذا التأييد الجارف في الداخل فإن مبادرات الملك عبد الله للخارج تحتاج إلى دعم مؤسساتي في الخارج يحقق لها الاستمرار، فالملك يطرح المبادرات، ولكن يبقى على كل من حوله ومحبيه في الخارج والداخل أن يحولوا ذلك إلى عمل مستمر، خصوصا في الخارج، والتحدي الآن هو أن تصل المملكة إلى معادلة يتناسب فيها أداء الأجهزة مع الرؤية الطموحة للقيادة. فمبادرات الملك عبد الله للتعامل مع الخارج، ليست للسعوديين وحدهم، وإنما للعرب والمسلمين مجتمعين.

والحديث عن وسائل دعم هذه المبادرات عربيا وعالميا يحتاج إلى حوار طويل وجاد، أتمنى أن نفتحه قريبا في ظل ما يواجهنا من تحديات آنية وملحة، وللحديث بقية.