رفع الضبابية عن محادثات الشرق الأوسط

TT

يعشق الدبلوماسيون الغموض، إذ يساعدهم على جعل النقاط الصعبة خلال التفاوض غير واضحة، ومثال ذلك قضايا «الوضع النهائي» كما يشيرون إليها في أغلب الأحيان. ويساعدهم الغموض على إرجاء النقاط الصعبة إلى وقت لاحق، حين تكون الأطراف المختلفة تحت ضغوط أكبر.

وقد كان الوله بـ«الغموض البنّاء» عنصرا بارزا في الجهود الأميركية من أجل تحقيق السلام في القضية الفلسطينية الإسرائيلية على مدار الأربعين عاما الماضية. وبدلا من ذكر تنازلات بغيضة، يرى معظم المحللين أنها ستكون مطلبا لازما في تسوية قابلة للتطبيق - مثل وجوب تمتع الإسرائيليين بسيادة مشتركة على القدس وتخلي الفلسطينيين عن «حق العودة» إلى إسرائيل - تحاول الإدارات الأميركية المتعاقبة إرجاء هذه البنود إلى فترة لاحقة.

ولكن تداعت هذه الضبابية الشهر الجاري، عندما أعلن وزير الداخلية الإسرائيلي خلال زيارة نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن أن إسرائيل سوف تبني 1600 وحدة سكنية جديدة في شرق القدس. وشعرت إدارة أوباما بالضيق، وهذه عبارة لطيفة. ووصفت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون الإعلان حول نية بناء وحدات سكنية بأنها «إشارة سلبية جدا» على العلاقات الأميركية الإسرائيلية و«إهانة».

وخلال اللغط الذي تبع ذلك بشأن «الأزمة» في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، كانت هناك محاولات حثيثة لإظهار الأمر وكأنه يتعلق بسوء فهم، لسحب عباءة الغموض مرة أخرى على عملية السلام. ولكن يعد ذلك خطأ.

لم تكن الخطوة داخل شرق القدس من قبيل المصادفة، ولكنه تصريح علني لافت للنظر نقل رفض اليمين الإسرائيلي تنازلات داخل القدس. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يحاول تلبية الطلبات الأميركية بإضفاء الغموض على القضية عن طريق تجنب الإجراءات الاستفزازية داخل القدس. ولكن حزب شاس اليميني الذي يتولى وزارة الداخلية، سعى إلى إثبات صدق ما يروج له.

وقال دور غولد، وهو سفير إسرائيلي سابق لدى الأمم المتحدة زمن الجناح اليمين: «إن وقف عمليات البناء داخل شرق القدس من الأشياء التي لا يمكننا القيام بها». وقال أفيغدور ليبرمان، وزير الخارجية الإسرائيلي وأحد المستوطنين: «هل تتخيل أن يقولوا لليهود داخل نيويورك إنه لا يمكنهم البناء أو الشراء داخل منطقة كوينز؟!».

وعليه، ما الذي يتعين على الإدارة الأميركية القيام به في الوقت الذي يضع فيه اليمين الإسرائيلي القدس على الطاولة، رغم الجهود التي تبذل من جانب الدبلوماسيين العاشقين للغموض؟

إن أفضل استراتيجية من جانب الإدارة هي القيام بما درسته قبل عام، أي الإعلان بوضوح عن المبادئ الأساسية التي يجب أن تمثل إطارا لهذه المفاوضات. وقد تحدث زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي السابق، عن هذه المبادئ الإرشادية: تقاسم حقيقي للقدس، ولا حق عودة للفلسطينيين، وعودة إلى حدود 1967 مع تعديلات متبادلة للسماح لمجمعات الاستيطان الإسرائيلية الكبرى، ودولة فلسطينية منزوعة السلاح. وكانت كافة المفاوضات على مدى العقود الأربعة الأخيرة تلتقي حول هذه الأفكار.

وتناقشت إدارة أوباما حول إصدار بيان المبادئ هذا قبل عام، عندما بدأت جهودها من أجل تحقيق السلام. ويروق استهلال المفاوضات بهذا «الإعلان» لبعض المسؤولين، ومن بينهم الجنرال جيم جونز، مستشار الأمن القومي. ولكن جورج ميتشل، مبعوث الإدارة للشرق الأوسط، قال إنه، اعتمادا على خبرته في محادثات السلام داخل أيرلندا الشمالية، يفضل ترك الأطراف يتناقشون قبل تدخل الولايات المتحدة بمقترحات تقريبية.

وبدلا من الإعلان عن مبادئ التفاوض الأميركية في البداية، قرر فريق أوباما الضغط على نتنياهو فيما يتعلق بالمستوطنات. واختاروا هذه المعركة خلال الأشهر الأولى لأوباما في منصب الرئيس، واثقين من أن الرئيس الجديد قوي، وأن نتنياهو ضعيف، وأنه عندما تحين لحظة الحسم سوف ينهار نتنياهو. وانتظر رئيس الوزراء الإسرائيلي بهدوء وساوم حول قضايا إجرائية، فيما أصبح أوباما أكثر ضعفا على الصعيد السياسي. ووافق نتنياهو في النهاية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، على وقف مؤقت لبناء المستوطنات الجديدة، ولكن مع استثناء القدس. وكان يجب على الإدارة الأميركية استشراف ما يحدث.

وفي معرض استرجاع الأحداث الماضية، نلاحظ أن سياسة الخطوات المتتالية كانت سياسة خاطئة، وبرهن «الغموض البناء» في هذه الحالة على أنه شيء مدمر. وسمح ذلك للجناح اليمين داخل إسرائيل أن يؤكد فكرة إمكانية الحصول على كل شيء، أي الحصول على اتفاقية سلام من دون تقديم تنازلات داخل القدس. وسمح ذلك لنتنياهو بالاستمرار في موقفه الملتبس.

وتمثل القدس القضية الأصعب في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، ولهذا السبب يريد صناع السلام المحتملون إرجاءها إلى المرحلة الأخيرة. ولكن تجعل أزمة الشهر الحالي من ذلك مستحيلا. ويقف اليمين الإسرائيلي وراء ضم قضية القدس. وما يحتاجه أوباما في الوقت الحالي هو الإعلان عن أنه عندما تبدأ المفاوضات، سوف تعلن الولايات المتحدة آراءها بشأن القدس وغيرها من القضايا المهمة، وتحديد الأطر العامة للاتفاق الذي يريده معظم الإسرائيليين والفلسطينيين. وإذا رفض نتنياهو التحرك، فحينئذ ستكون لدينا أزمة حقيقية في العلاقات الأميركية الإسرائيلية.

* خدمة «واشنطن بوست»