«ما أحلى الرجوع إلى.. دمشق»!

TT

«سورية لم تحضن لبنان مجددا.. ولكن لبنان عاد إلى أحضان سورية». بهذه العبارات علق سياسي لبناني متقاعد على اعتذارات وليد جنبلاط وتمهيد أمين عام حزب الله طريق دمشق أمامه، وعلى كل ما سبق هذه الخطوة المنتظرة - وما سيتبعها - من تطورات في المواقف السياسية في لبنان، منذ تأليف الحكومة الائتلافية، وزيارة رئيسها لدمشق.

لم يكن أمرا طبيعيا قيام حكومة أكثرية مخاصمة لسورية، بعد انتخابات 2009. ولكنه لم يكن معقولا، من جهة أخرى، أن تؤلف الحكومة اللبنانية الجديدة في دمشق أو «عنجر»، كما كان عليه الأمر قبل ثورة الأرز في 14 مارس (آذار) 2005. والحكومة الائتلافية التي نجح الرئيس الحريري في تأليفها، بعد جهد، كانت المخرج الأوحد والأفضل من الأزمة الوطنية والسياسية التي نشبت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، إذ جمعت - ولا نقول وفقت - بين القوى السياسية المتخاصمة في لبنان، ومهدت لتصحيح العلاقات بين لبنان وسورية وإرسائها على قواعد أوفر وضوحا وإيجابية. وكان دخول أصدقاء سورية في الحكومة بهذا الحجم الكبير والبيان الوزاري وزيارة الرئيس الحريري لدمشق، خطوات طبيعية متوجبة لتمهيد طريق «المصالحة» بين دمشق وبيروت. أو بالأحرى بين دمشق وقوى 14 آذار.

ولا شك في أن أسبابا وطنية وسياسية داخلية وإقليمية ودولية أخرى، أسهمت في دفع القوى السياسية المتخاصمة في لبنان نحو المهادنة والتقارب والانفتاح على دمشق. أهمها في نظر المراقبين: جو المصالحات العربية - العربية، وذوبان بعض الجليد في العلاقات السورية - الأميركية. وإذا كانت زيارة جنبلاط لدمشق باتت وشيكة، وزيارة الرئيس الحريري لدمشق مرشحة للتكرار، فهل يمكن القول بأن العلاقات السورية - اللبنانية دخلت «شهر عسل»؟ وأن دمشق سوف تسهل على الحريري وحكومته حل العقد العالقة بين فريق 14 آذار وفريق 8 آذار.. ولا سيما قضية الاستراتيجية الدفاعية؟

أم أن الوضع الحكومي والوطني - السياسي القائم، حاليا، في لبنان، هو «دون»، أو «غير» ما تريده دمشق في – أو من - لبنان؟

لا شك في أن سورية نجحت في تحسين بل تعزيز موقعها إقليميا ودوليا، على الرغم من تمسكها بحلفها مع إيران وباستراتيجية الممانعة والمقاومة بل و«استهزائها» بمحاولات واشنطن وبعض الدول الأوروبية فصلها عن طهران. أما إعلانها قبول الوساطة التركية لإجراء محادثات غير مباشرة مع إسرائيل، فمن الواضح أنها مناورة ذكية، معروفة النتائج سلفا. ولبنان لا يستطيع تجاهل هذا الانفتاح الإقليمي والدولي على سورية. إنما السؤال يبقى: ما الذي تطلبه أو تريده سورية من لبنان، اليوم، أو غدا؟

ليس بسر أن سورية تريد من لبنان أن يكون طرفا كامل العضوية في جبهة الممانعة والمقاومة. ويشارك سورية في هذا الموقف حزب الله وقوى 8 آذار وجنبلاط، أخيرا، وإن كان لم يخف تمسكه باتفاقية الهدنة ودمج المقاومة بالجيش تحت ظل الدولة. وبالتالي فإن كل موقف أو خطوة أو قرار لبناني يخالف أو يتعارض مع هذه الاستراتيجية، مرفوض سوريا ومعبر عنه بلسان القوى السياسية الصديقة أو المراهنة على سورية. وفي مقدمها حزب الله. ولكن هل أكثرية الشعب اللبناني مؤيدة لهذه الاستراتيجية التي من شأنها تحويل لبنان إلى «الجبهة المقاومة» العربية الوحيدة المفتوحة في وجه إسرائيل؟ وتعرضه، بالتالي، لعدوان إسرائيلي جديد محتمل، مدمر لبنياته التحتية؟ وأين مصلحة لبنان في أن يفقد صفة الدولة الديمقراطية المسالمة المستقرة المستجلبة للسياح والرساميل والاستثمارات الخارجية، أي لموارد حياة اللبنانيين الأساسية؟!

إن اللبنانيين مجمعون على أن إسرائيل هي العدو والخطر على لبنان. كما هم مجمعون على «خصوصية» العلاقات اللبنانية - السورية التي تفرضها الجغرافيا والتاريخ والمصلحة القومية ومصالح البلدين المشتركة. وأن هذه العلاقات لا بد من أن تكون أخوية وندية واستراتيجية. لكنّ نقطتي الخلاف أو «الاحتكاك»، بين العاصمتين، كانتا وهما وقد تبقيان: إن اللبنانيين يريدون أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وأن يتبصروا بحرية مصلحتهم ومصيرهم. بما فيه نوع ومدى وطبيعة علاقات بلدهم بسورية – وغيرها من الدول العربية والأجنبية - بينما سورية لا تطمئن إلى «خاصرتها» اللبنانية إلا إذا كانت ممسكة، بشكل أو بآخر، بزمام الأمور في لبنان مباشرة أو عبر أصدقائها أو حلفائها من السياسيين اللبنانيين.

إن العلاقات بين دمشق وبيروت مرت، منذ استقلال البلدين، بمراحل تعاون أو تفاهم أخوي، وبأخرى يسودها التوتر والخصام. بلغت ذروة التفاهم في عهد بشارة الخوري - رياض الصلح - القوتلي، وفي عهد عبد الناصر - شهاب - رشيد كرامي، كما انحدرت إلى مستوى الخصومة والتناكف في عهد حسني الزعيم وحكومة خالد العظم وكميل شمعون وبعض الحكومات العسكرية الانقلابية، وخلال مراحل الحرب الأهلية اللبنانية، لتبلغ العداء السافر بعد اغتيال الرئيس الحريري. ولعل المطلوب، اليوم، هو بناء علاقات سورية - لبنانية، من نوع جديد، خارج مألوف العلاقات السابقة.

وليس ذلك بمستحيل، إذا اقتنعت دمشق بتطوير نظرتها إلى لبنان وشروط «اطمئنانها» إلى استقلاله وسيادته وديمقراطيته وحق شعبه في اختيار مصيره. وأيضا إذا اقتنع السياسيون اللبنانيون بأن أفضل استراتيجية دفاعية عن وطنهم، بل وأفضل دعم أو خدمة لسورية، وللمصير العربي المشترك، هو التمسك بالوحدة الوطنية اللبنانية وتدعيمها.