لماذا لا يخشى نتنياهو عواقب تهويد القدس؟

TT

* «انعدام الدليل هو الدليل القاطع على أن المؤامرة ناجحة»

(القائل مجهول)

* على الرغم من رصدي السياسة الإسرائيلية منذ عقود، ومتابعتي - كصحافي - هروب إسرائيل المتعمد والدائم من السلام، بينما هي لا تكف عن المطالبة به والتباكي عليه، فإنني ما زلت عاجزا عن إيجاد أي منطق وراء ما يفترض أنه استراتيجية حياة أو موت.

ما زلت أجد عصيا على الفهم السليم كيف تقوم «ثقافة سياسية»، بقضها وقضيضها، على الكذب على الذات، حتى لو أثبتت الأيام والتجارب سهولة ممارسة الكذب على الآخرين.

غريب حقا إقدام حكومة نتنياهو - التي تضم بالمناسبة وزراء من حزب العمل - على إهانة الإدارة الأميركية بإعلانها توسيع عمليات البناء والاستيطان في القدس الشرقية، بينما تدفع واشنطن وساطتها العرجاء المترنحة لتسهيل التوصل إلى سلام مجحف، وحتما، مؤقت بين «آلة الحرب» الإسرائيلية و«شتات» الداخل الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة.

ويزداد الأمر غرابة، عندما ندرك أن واشنطن تخطو هذه الخطوات التفاوضية، ليس من كرم أخلاقها، بل لأن عينها على «الخطر النووي» الإيراني.. الذي تدعي إسرائيل أنه يشكل خطرا داهما عليها. وقد قيل في أيام إدارة جورج بوش «الابن» إن واشنطن بالكاد تمكنت من إقناع الحكومة الإسرائيلية، يومذاك، بالإحجام عن قصف المنشآت النووية الإيرانية.

مما سبق، نفهم أن إسرائيل متحمسة جدا للتخلص من تهديد إيران النووية الراديكالية التي أعلنت على لسان أحد قادتها- كما نذكر، ولا شك - أنها قادرة على تدمير «الكيان الصهيوني الغاصب» خلال 11 يوما لا أكثر!

مع هذا، لا يريد عقل نتنياهو، خريج معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، أعظم معاهد الهندسة والعلوم التطبيقية في العالم، التفكير بأي رابط منطقي بين إصرار حكومته وزبانيتها من المستوطنين المتطرفين والتوراتيين، وكسب إيران الجدل القائم داخل عالم عربي عاجز ومسلوب الإرادة.. حول استحالة حل النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني بغير القوة.

لا يريد التطرف الإسرائيلي الاقتناع - أو بالأصح، «يمثل» على العالم بأنه غير مقتنع - بأنه فعليا يخدم تعميم التطرف في منطقة الشرق الأوسط، ويتآمر على أي اعتدال حقيقي غير ذيلي. والمسألة ما عادت تقتصر على موضوع توسيع المستوطنات وزيادة عددها، والعمل بكل الوسائل على تدمير البقية الباقية من صدقية عند السلطة الفلسطينية ورموزها، بل نراه يظهر بأوجه مختلفة خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة.

إننا نراه، يوميا تقريبا، مع تعمد إسرائيل التآمر على أي ظاهرة ليبرالية أو تقدمية في المنطقة العربية والعالم الإسلامي.

فالتهديدات الصريحة للبنان وحكومته وبناه التحتية، ردا على أي هجوم يشنه حزب الله عبر الحدود، تشكل مثالا آخر يفضح حقيقة ما تريده تل أبيب.

إنها تهدد دائما بضرب دولة هشة.. ممنوعة من أن يكون لها قرارها السياسي السيادي، وجيشها الرسمي أصغر من «الجيوش» غير الشرعية على أرضها، ومؤسساتها الحكومية مستهدفة و«مخونة» وتتعرض للتهديد يوميا تقريبا. وكان آخر ضحايا الاستهداف رئيس الجمهورية ميشال سليمان بحجة أنه «توافقي» (والعياذ بالله!) وقيادة قوى الأمن الداخلي بحجة أنها عقدت بعلم الحكومة الرسمية اتفاقات مع سفارة دولة كبرى على رؤوس الأشهاد. أما البديل عن «التوافق» و«شرعية» تمويل وتجهيز قوى فئوية بسلاح ما عاد يحظى بإجماع اللبنانيين.. فعلمهما عند الله عز وجل.

هذه حقائق لا أحد يعرفها مثل إسرائيل وحكامها.

أكثر من هذا، تعرف إسرائيل الكثير عن مصدر تسليح حزب الله وعن تحالفاته وطرق إمداده وأماكن تدريبه. لكنها مع ذلك تفضل - لسبب ما - أن تحملّ مسؤولية ما يمكن أن يفعله «الحزب» للجهات التي تتحفظ عن خطه، وترفض أن يجرها «الحزب» إلى حروب إقليمية ذات حسابات استراتيجية أوسع بكثير من رقعة المواجهة بين لبنان وإسرائيل.

مثال آخر، هو ترويج تل أبيب المستمر لأكذوبة فصل سورية عن إيران. وسعيها الدؤوب لاستخدام هذه الأكذوبة كغطاء أو مبرر لتنسيق عملية الانفتاح الدولي الذي بدأه حلفاء إسرائيل الموثوقون في أوروبا الغربية والولايات المتحدة على دمشق. وكان باكورة التبريرات ما قدمه بعض الباحثين الليبراليين الأميركيين المحسوبين على «اللوبي الإسرائيلي» في واشنطن لإدارة باراك أوباما عن أنها لن تنجح - على الأرجح - في تذليل عقبة النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، وبالتالي، عليها للرهان على بديل مفيد لها في الشرق الأوسط تسريع الحوار السوري - الإسرائيلي.. الذي يريده الطرفان.

ثم في عز عزلة دمشق دوليا بعد أحداث 2005 في لبنان، بادر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى كسر العزلة، ومن ثم - بعد «اتفاق الدوحة» - مساعدة دمشق ليس فقط على الخروج من مأزقها، بل أيضا الانقضاض على خصومها السابقين في لبنان لـ«تصفية حساباتها» معهم، والعودة - كما نرى اليوم - إلى سياسة ضرب مؤسسات الدولة اللبنانية.. الواحدة تلو الأخرى.

وماذا عن العراق؟

عندما قصفت إسرائيل المفاعل النووي العراقي عام 1981، نتذكر أنها لم تجد حاجة إلى «ضوء أخضر» أميركي أو غير أميركي، ولم تخش حينذاك رد فعل الاتحاد السوفياتي.. قبل أن تطويه الأحادية القطبية الأميركية في مطلع التسعينات من القرن الـ20. ثم إنها عندما رعت عبر رجالها داخل الإدارة، وبالأخص في «البنتاغون»، التخطيط لحرب إسقاط النظام العراقي غير المأسوف عليه، فإن «اللوبي» التابع لها لم يكن - على ما تأكد لاحقا - ضد ملء إيران الفراغ الناجم عن إسقاطه.

واليوم عندما ترسل الإدارة الأميركية الديمقراطية الحالية إشارات متناقضة إلى طهران، فلعلها تفعل ذلك من قبيل «رفع العتب» وكسب الوقت قبل الإقرار بما ليس من إقراره بد. ذلك أن إسرائيل قد تكتشف فجأة، أو قد تجد من يقنعها، بوجود مصلحة أمنية دولية بنسخة جديدة عن معاهدة «سايكس - بيكو» في الشرق الأوسط.. تأتي كسابقتها، رغم اختلاف هوية القوى المنتدبة، على أنقاض الوجود والنفوذ العربيين.

في هذه الأثناء، نتنياهو مستمر بمخطط تهويد القدس. وطهران مطمئنة إلى أن أقصى ما يمكن أن تفعله إدارة أوباما فرض عقوبات اقتصادية. وحزب الله يستبعد أي حرب في جنوب لبنان، ولذا يركز على مواصلة انقلابه الكامل على الدولة اللبنانية. ودمشق تدعم جهوده بتأمين كل ظروف إسقاطها.