النغم السعودي الذي أحببت

TT

بعيدا عن الإشادات المكررة، كان موسم الجنادرية مميزا في السعودية هذه السنة. أسماء جديدة و«مثيرة» تشارك في التظاهرة لأول مرة، وعناوين ندوات جريئة حول السلفية والإعلام السياسي، ونقاشات مفتوحة في ردهات فندق «الماريوت» أو في مجالس ومطاعم ومقاهي الرياض مع الضيوف.

يبدو لي أن هذا هو أهم أثر يمكن أن يحدثه هذا المهرجان في تحريك نواعير الحياة الثقافية وتنشيط الجدل الفكري المحلي.

الحوار يخيف من يريد بقاء الأمور كما هي، فريق في الجنة وفريق في السعير، الحوار - الحقيقي - يثمر دوما خصوبة وجدلا وتهذيبا للأفكار وتطويرا لها، فليس أجدى من مبرد الجدل لسن سيوف الفكر.

لن أتحدث عن المهرجان بشكل عام، بل أتوقف عند ملاحظة لافتة، وهي موضوع المرأة التي كانت حاضرة، ومستكملة لحضورها الجديد في المشهد السعودي. دار كلام خافت قبل حفل افتتاح المهرجان على شرف ملك البلاد وقائدها، الملك عبد الله بن عبد العزيز، كيف يكون الكلام عن المرأة؟ وما هي الأفكار التي ستعبر بها المرأة عن نفسها؟ كيف ستكون ملامسة أوبريت «وحدة وطن» الذي كتبه الشاعر ساري، لهذه القضية؟ ظل الموضوع محل ترقب لدى من يترقب، حتى افتتح الحفل وتوالت الفقرات، وكان من أهمها قصيدة فصحى ألقاها الشاعر «الحساوي» جاسم الصحيح، قصيدة هدارة واضحة معبرة عن «وحدة الوطن» بكل طوائفه وأطيافه خلف قيادة الملك، ثم بدأ الأوبريت بمسرحه وعروضه الباهرة حتى حانت لوحة المرأة، فأتت الكلمات واضحة لا لبس فيها، وكانت معبرة عن روح وموقف القيادة في قضية المرأة، التي هي الموضوع «السجالي» الأكبر محليا.

مما جاء في لوحة المرأة في أوبريت «وحدة وطن»، بالمحكية السعودية طبعا:

«حنا شقائق هالرجال..

قول النبي ما به جدال..

واحلامنا.. مهما تكون احلامنا..

والله ما نرضى بغير اسلامنا»..

كان هذا صوت المرأة للرجل، تقول له من هي وماذا تريد وكيف تفهم هويتها وترسم أحلامها.. ليأتيها صوت الرجل، صاحب السلطة، مجيبا في مكان آخر من هذه اللوحة:

«إنتي صاحبة الحقوق مهما نبعد أو نروح..

إنتي دم في العروق واختنا منا وفينا بيننا ما به فروق..

فضلكم وحقوقكم.. الله شرعها لنبيه.. لا أبد ما هي هديه..

لا أبد ما هي عطيه»..

إذن فلماذا الخوف من أحلام النساء في السعودية؟ لماذا يجن جنون البعض إلى درجة الرغبة في قبر المرأة وهي حية؟ لماذا يظن البعض أن المرأة من حين أن تملك فرصتها وقراراها ستمرق من الإسلام أو من الأخلاق؟

المرأة هنا تهتف بصوت جهير: أحلامها، مهما كبرت أحلامها، فهي تحلق في سماء ثقافتها وهويتها وتأوي إلى شجرة أرضها وأهلها. لأن المرأة هي الأرض وهي الخصوبة وهي المأوى..

أمر آخر، حينما تفسح السلطات السياسية المجال للمرأة وتأخذ المرأة «شيئا» من حقها الطبيعي في الحياة والعمل، فإن السلطات، أيّ سلطات، إنما تضع الأمور في نصابها، وتعطي كل ذي حق حقه، هذه «حقوق» واجبة للمرأة، وليست «عطية» أو «هدية» تمنح للمرأة.. وهذا معنى واضح ويجب تكريسه، تكريس ثقافة الحقوق والواجبات، لا ثقافة المنح والأعطيات.

توقفنا بشكل مطول مع هذه الاحتفالية الجنادرية بالمرأة ممثلة في لوحة المرأة في أوبريت «وحدة وطن» لأن ذلك أمر مستحق وجدير بالتوقف عنده، لكن يجب أن لا ننسى أن الملك عبد الله بن عبد العزيز حينما يبسط حماية الدولة ويفعّل جوهر العدالة في مسألة المرأة، إنما يفعل ذلك من باب «الاستمرارية» التاريخية والطبيعية لوضع المرأة في الجزيرة العربية. هو لم يخترع أن المرأة إنسان له كامل الحق في الظهور العام والعمل والمشاركة الاجتماعية والسياسية والعلمية، بل هو ماض على جادة مطروقة منذ القدم، من يريد حرمان المرأة من كل هذا وحشرها في أضيق الزوايا هو الذي قطع الاستمرارية التاريخية، بل إن المؤسس العظيم لهذه البلاد الملك عبد العزيز كان مثالا عفويا وطبيعيا وجميلا في التعامل مع المرأة، لدرجة أن سيدة فاضلة كانت هي من الينابيع الأولى التي تلقى الملك عبد العزيز تعليمه على يديها، ففي أثناء إقامة الملك عبد العزيز مع والده الإمام عبد الرحمن، وأسرته وبعض أنصاره، في الكويت قبل استرداد الرياض وانطلاقة الدولة الثالثة، كان كبقية أقرانه ينشد العلم التقليدي كما كان يفعل أهل تلك المرحلة. يقول أحد معلمي هذا التعليم التقليدي في الكويت، الملا أحمد بن عبد الله العمر، عن الملك عبد العزيز بعدما تحدث عنه وعن إخوانه وبعض أقاربه: «بسبب تحرجهم من المرور في السوق للوصول إلى مدرستنا، طلبوا من جدي السماح لهم بالدراسة عند المطوعة (شريفة العمر)، فسمح لهم جدي بالدراسة لديها، فختموا القرآن لديها»، ومن وفاء الملك عبد العزيز لهذه السيدة الفاضلة أنه كان يرسل للمطوعة شريفة راتبا شهريا حتى توفيت. (التفاصيل كلها في كتاب «معركة الصريف بين المصادر التاريخية والروايات الشفهية»، للمؤلف الكويتي فيصل السمحان، ص30 - 31).

وكان الملك عبد العزيز يكنّ تقديرا خاصا لأخته نورة بنت عبد الرحمن ويثق برأيها، ولذلك استلهم ابنه الملك عبد الله بن عبد العزيز هذه المشاعر والمواقف فأطلق اسم الأميرة نورة، صاحبة العقل الراجح، على أكبر جامعة للبنات في السعودية عوضا عن اسمه.

وتحدثنا الدكتورة السعودية دلال الحربي في كتابها الجميل «نساء شهيرات من نجد»، الذي أصدرته دارة الملك عبد العزيز، عن «52» امرأة من اللاتي عشن في نجد في الفترات السابقة وكان لهن تأثير في مجتمعاتهن في تلك الفترات، وتقتصر حدود هذا الكتاب مكانيا على منطقة نجد، وزمانيا على الفترة ما بين بداية القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) ووفاة الملك عبد العزيز عام 1373هـ. اعتمدت المؤلفة على مصادر متنوعة في جمع مادة هذا الكتاب، وهي: الكتب والمقالات المنشورة، والمحفوظات، والوثائق، بالإضافة إلى الروايات الشفهية التي كان لها دور كبير في إثراء مادة هذا الكتاب (كما في تعريف الدارة بكتاب المؤلفة). وقد قرأت عن سيدات قمن بأدوار عامة مميزة في عمق المجتمع، فمنهن من أشرفت على وقف الكتب على طلبة العلم، ومنهن من شاركت في التدبير السياسي وصناعة القرار، ومنهن من فتحت بيتها للأسرى وساهمت بمالها في علاج المجاعات العامة، ولن أذكر أسماء محددة، لكن الكتاب جدير بالقراءة حتى نطلع على صورة حية ونشطة للمرأة ابنة وسط الجزيرة العربية في تلك الأوقات.

وما كان يجري في وسط البلاد، نجد، كان يجري بصور أخرى ومتنوعة في الحجاز والشمال والشرق والجنوب، حيث كانت المرأة فعلا «نصف المجتمع».

وهن في هذا كله لسن إلا امتدادا طبيعيا للمرأة المسلمة منذ صدر الإسلام، فنحن نجد نصوصا من الصدر الإسلامي الأول لو طالبنا بها كثيرا من المحجرين على المرأة لضاقت صدورهم وكرهوا من يطالبهم بمثل هذه الأشياء التي كانت تحصل في عصور الإسلام! مثل ما روي عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب أنه رفع له أن فتاة زوجت من رجل مسنّ قسرا فقتلته، فنهى عمر عن تزويج الصغيرات. («فصول عن المرأة»، للمؤلف هادي العلوي، ص91).

لقد كانت المرأة حاضرة في متن الحياة السياسية في عهد الصحابة والدولة الأموية، وحاضرة في الفقه والأدب، فهذه الخنساء أشهر شاعرة عربية تقول القصائد الغرر ويتناقلها الرواة والصحابة يملأون الأرض، والنساء يقمن بأدوار بارزة في معسكر علي بن أبي طالب ويلقين الخطب العصماء للتحريض ضد الجيش الآخر، مثل الزرقاء بنت عدي، وبكارة الهلالية، وأم الخير البارقية، وسودة بنت عمارة، كما ينقل ابن طيفور في كتابه «بلاغات النساء»، بل وتفِد إحداهن، وهي سودة بنت عمارة الهمدانية، إلى معاوية بعد أن دانت له الأمور وتجادله وتلح في المطالبة بحقوق قومها ورفع الحيف عنهم وعزل الولي الغشوم عنهم، أي أنها كانت «سفيرة» قومها إلى الخليفة!

أين كنا وكيف صرنا حقا؟!

ويشير العلوي في كتابه الشيق إلى أنه قد وصلت لنا لوحة للرسام يحيى الواسطي من القرن السابع تصور امرأة وهي تلقي دروسا على الرجال، وهي مكشوفة الوجه محجبة الشعر.

ما جرى من نشاط وحيوية للمرأة السعودية مؤخرا، مهما رأى البعض ضئيلا، والبعض الآخر انحرافا خطيرا، ليس إلا أمرا طبيعيا وامتدادا تاريخيا لما كان يجري بالفعل، المطلوب منا نفض الخوف والأوهام، فالوهم هو فخ الفعل وقيد الحركة، وهذا ضد طباع الجزيرة العربية وأهلها، وتاج هذه الجزيرة هو السعودية، حيث من هذه الجزيرة ولد النور والضياء والحركة الكبرى في مشارق الأرض ومغاربها.

[email protected]