مهرجان النار

TT

حث المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، أخيرا، الإيرانيين على نبذ «مهرجان النار الفارسي»، باعتباره احتفالا غير إسلامي يسبب «الكثير من الألم».

تحل احتفالات «تشارشانبي سوري» (مهرجان إيراني قديم) عشية الأربعاء الأخير من العام بالتقويم الفارسي. هذا العام، تزامن المهرجان مع ليلة 16 مارس (آذار).

وقال خامنئي، رجل الدين صاحب النفوذ الأقوى في إيران، الذي يعتبر الأفعال التي يقوم بها تأتي نيابة عن نبي الإسلام والإمام المهدي المنتظر (الإمام الثاني عشر طبقا لمعتقدات الشيعة الاثني عشرية)، عبر موقعه على شبكة الإنترنت، إن «تشارشانبي سوري» «لا أساس له في الشريعة ويترتب عليه كثير من الأذى والفساد، وبالتالي ينبغي تجنبه».

يعد «تشارشانبي سوري» مهرجانا إيرانيا قديما يرجع تاريخه إلى عام 1700 قبل الميلاد، أي مطلع الحقبة الزرادشتية. ويعتبر مهرجان النار مقدمة لمهرجان «نوروز» القديم، الذي يحتفي بقدوم الربيع واستعادة الطبيعة الروح والنشاط مجددا، أو ما يكافئ رأس السنة الجديدة في التقويم الإيراني، التي حلت في 21 مارس هذا العام.

على ما يبدو، يتسم مهرجان النار هذا العام بظروف شديدة الخصوصية، ذلك أنه للمرة الأولى في تاريخ الثورة الإسلامية نعاين، ليس فقط حديث المرشد الأعلى عن هذا الاحتفال وإصداره فتوى ضده، وإنما كذلك آيات الله آخرين أمثال نوري حمداني ومكارم شيرازي، الذين نشروا فتاوى ضد مهرجان النار أيضا.

والتساؤل الملحّ الآن: هل ينبغي أن تتوافق جميع التقاليد الثقافية والاجتماعية مع الفقه؟ بمعنى، مثلما قال خامنئي، إذا لم نجد مبررا في الفقه لمهرجانات مثل مهرجان النار، فهل يصبح لزاما علينا رفضها؟

خلال العقد الأول من الثورة، عندما كانت القوانين ترسل إلى «مجلس الأوصياء»، رفض المجلس بعض القوانين لعدم توافقها مع الشريعة. بعد ذلك، بدل «مجلس الأوصياء» وجهة نظره وتفسيره لما ينبغي أن يكون عليه القانون من الناحية الدستورية، حيث قبِل بأن القوانين لا ينبغي أن تكون متوافقة بالضرورة مع الشريعة، لكن ينبغي أن لا تكون متعارضة معها. إلا أنه ينبغي التنويه بأن هناك فجوة كبرى بين «ما يتوافق» و«يتعارض». الواضح أن المادة الرابعة من الدستور الإيراني تمثل مصدر المشكلة، حيث تنص على أن: «جميع القوانين والتنظيمات المدنية والجزائية والمالية والاقتصادية والإدارية والثقافية والعسكرية والسياسية وغيرها يجب أن تعتمد على معايير إسلامية. وينطبق هذا المبدأ بصورة مطلقة وبوجه عام على جميع مواد الدستور وكذلك جميع القوانين والتنظيمات الأخرى، ويعد فقهاء (مجلس الأوصياء) القضاة المخول إليهم الفصل في مثل هذه الأمور».

منذ بداية الثورة قال بعض رجال الدين مثل آية الله خزالي بضرورة رفض احتفال «نوروز» وعدم التعامل معه كمهرجان وطني، وإنه ينبغي استبداله بمناسبة دينية. لحسن الحظ، قوبل مقترحه بالرفض. ونظرا لأن التقاليد الثقافية تضرب بجذور شديدة العمق بين الإيرانيين، فإنه من المتعذر القضاء عليها بأمر واحد.

في الواقع، يتعين على الحكومة الذكية احترام التقاليد التاريخية والثقافية لمواطنيها، وليس نعت شعبها بالغبي. ومن أجل ذلك، قال سومسرت موغام إن «التقاليد مرشد، وليست سجانا».

وقد قيل إننا بحاجة إلى وقت طويل كي تصبح لدينا تربة صغيرة! لذا، نجد أن إسرائيل تنشط في شراء أراضي الأردن! ويقال إننا بحاجة إلى آلاف السنين للحصول على التربة المناسبة. ويأتي تكوّن التربة، أو التاريخ، عبر تفاعل مجموعة من العوامل الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية والأنثروبولوجية داخل التربة الأصلية.

وتعمل التقاليد بمثابة تربة روحية تبقى في ضمير الأمة. ومثلما قال جيمس هنري، فإنه «يستلزم الأمر تاريخا طويلا من أجل خلق ولو تقليد بسيط».

الآن، ما هي جذور مهرجان النار الإيراني؟ منذ سبعة أعوام دعيت للمشاركة في ندوة في كيوتو حول الهوية اليابانية. وكان الحدث مذهلا بالنسبة لي، وذلك لمشاركة أربعة أجيال من الفلاسفة اليابانيين في الندوة التي استمرت فعالياتها يوما واحدا. وتنوعت أعمار المشاركين بين 30 و100! والتقيت كوسي موريموتو، رئيس معبد «تودايجي». وذهبنا معا إلى معبد «تودايجي» وصلينا هناك. وأخبرني موريموتو أن مهرجان النار، كإرث إيراني، ما يزال حيّا في طوكيو!

ساد اعتقاد لدى الإيرانيين القدماء بأن الضوء والنار يمثلان «أهيورا مازاد» (الخالق القدير). وقد حظيت النار بتبجيل الإيرانيين القدماء. وداخل المعابد، كانت هناك كوة بها نار، حيث رأوا أنه يجب أن تبقى النار مشتعلة ومتوهجة طوال الوقت. وكان هناك رجل موكل بحماية النار، وأطلق عليه «أسوربان».

واعتقد القدماء أنه كي تكون قريبا من النار، ينبغي أن تكون نقيا. وعلى أساس هذه الخلفية، قبل حلول العام الجديد، اعتاد الإيرانيون الاحتفال بمهرجان النار عشية الثلاثاء الأخير من العام الحالي.

من الناحية التقليدية، كان يجري الاحتفال بـ«تشارشانبي سوري» ليلة الأربعاء الأخير من العام، لكن منذ قيام الثورة الإسلامية انتقل الاحتفال به إلى الثلاثاء الأخير. وتعني كلمة «تشارشانبي» الأربعاء، بينما تعني «سوري» أحمر.

خلال الاحتفال توقد مشاعل للإبقاء على الشمس حية حتى الساعات الأولى من الصباح. وعادة ما يبدأ الاحتفال في المساء، مع وضع الناس مشاعل موقدة في الشوارع والقفز فوقها.

وتتضمن تقاليد الاحتفال خروج الناس إلى الشوارع لإشعال النار والقفز فوقها، بينما ينشدون: «سرخى تو از من زردى من از تو»، والتي تعني ترجمتها الحرفية: «لونك الأحمر الناري ملكي، ولوني الأصفر الشاحب ملكك».

المعروف أن النار من الرموز المقدسة في الزرادشتية واليهودية والمسيحية والإسلام، وهي رمز ليهوه أو الله.

وذكرت في القرآن، مثل: «وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى. إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى. فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى» (سورة طه).

وفي التوراة: «وكان موسي يرعي الغنم.. فتراءي له ملاك الرب في لهيب نار من وسط عليقة فنظر فإذا العليقة تشتعل بالنار وهي لا تحترق» (سفر الخروج).

وتعد هذه العليقة المشتعلة واحدة من القضايا النقاشية الجذابة بين رجال الدين المسيحيين واليهود، وأعني بذلك أن بعض التقاليد يمكن قبولها من جانبنا لجذورها العميقة بين أفراد الشعب. ويبدو لي أن فتوى آية الله خامنئي تفتقر إلى خلفية دينية قوية في الفكر الديني الشيعي، بل وحتى تاريخ الثورة الإسلامية.

في الواقع، سعى أبناء الشعب الإيراني، خصوصا الأجيال الجديدة منهم، وراء يوم عطلة رسمية أو غير رسمية للخروج إلى الشوارع للتظاهر. وعندما لا تسمح لهم الحكومة بالتظاهر قانونيا لا يجدون بدّا سوى إبداء اعتراضهم، وهنا يستغلون تقاليد ثقافية مثل مهرجان النار كوسيلة لتحقيق ذلك. إنهم يرغبون في الصراخ بأعلى صوتهم بأن أصواتهم الانتخابية سُرقت، ويريدون القول إنهم يعارضون الاستبداد الديني. وعليه يختارون مهرجان الأربعاء لإظهار تحديهم للحكومة.

أعتقد أن مهرجان النار يشكل رمزا للمقاومة ضد شتاء قارس للغاية وظلام حالك قائم في إيران الآن. ومثلما قال جون كينيدي في خطابه أمام المؤتمر الديمقراطي في لوس أنجليس عام 1960: «لسنا هنا لنلعن الظلام، نحن هنا لنضيء شمعة».

ويرغب الإيرانيون في الاحتفال بالنار ضد الظلام الحالك المحيط بهم.