المعضلة التقليدية أمام عملية السلام

TT

لقد كان الدبلوماسيون الأميركيون يبذلون جهودا حثيثة منذ أشهر لإقناع الإسرائيليين والفلسطينيين باستئناف مفاوضات السلام. وعندما بدا وكأن جهودهم قد أوشكت على النجاح، وقعت تلك العمليات الاستفزازية، حيث أعلنت إسرائيل عن توسيع المستوطنات اليهودية في القدس. وكانت عناوين الأخبار في العالم كله تتحدث حول احتجاج الاتحاد الأوروبي، ووصف الفلسطينيين ذلك القرار بالمجحف. ومن جهة أخرى، هدد البعض بمقاطعة المحادثات الجديدة ما لم يتم التراجع عن ذلك القرار.

لا، لم يكن جو بايدن في القدس خلال ذلك الأسبوع من ديسمبر (كانون الأول) 2007، فقد كان مشغولا بالترشح للانتخابات، وبدلا منه كانت هناك كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية في إدارة بوش، التي تمكنت من إدارة تلك الأزمة الصغيرة. وتقدم الكيفية التي أدارت بها رايس تلك الأزمة وما تلاها من أحداث بعض الدروس لخلفائها في إدارة أوباما الذين يثبتون كل يوم أنهم لا يتعلمون بسرعة فيما يتعلق بعملية السلام في الشرق الأوسط.

فقد كانت رايس ورئيسها مخطئين في إخفاقهم في دفع المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية خلال معظم الوقت الذي قضوه في المنصب. ولكن في آخر عامين لها كوزيرة للخارجية، كانت رايس تسعى عن كثب للتوصل إلى اتفاقية نهائية، ولكنها ربما لم تتوصل في النهاية إلا إلى ما توصل إليه أي من المفاوضين الأميركيين الذين جاءوا قبلها. ومن جهة أخرى، كانت رايس محظوظة بوجود رئيس الوزراء، إيهود أولمرت، حيث إنه كان أكثر اهتماما بعقد صفقة من بنيامين نتنياهو، كما أنها كانت قد اطلعت جيدا على تاريخ عملية السلام السابق وهو ما يفسر سبب تجنبها بعض أخطاء الرئيس أوباما الفادحة.

وكما أنه من المحتمل أن تكون رايس قد أخبرت الإدارة الحالية للبيت الأبيض، فإن الدرس الأول المستفاد من التاريخ هو أنه سيكون هناك دائما عمليات استفزازية يمكنها تهديد عملية السلام، سواء قبل بداية المفاوضات أو خلالها أو بعدها، وتشتمل تلك العمليات الاستفزازية على أنواع ثلاثة، الإعلان عن استئناف بناء المستوطنات الإسرائيلية، تنظيم الفلسطينيين في الضفة الغربية مظاهرات تنضوي على أعمال عنف، أو الهجمات التي تشنها حركة حماس من غزة. وقد شهدت إدارة أوباما العوامل الثلاثة خلال الأيام العشر الماضية، وثارت ثائرتها لأحد تلك العوامل، بينما لم تشر إلى العاملين الآخرين.

وتكمن البراعة في أن لا يتم السماح باستحواذ العمليات الاستفزازية على الانتباه والإصرار على استئناف المفاوضات، وذلك هو ما فعلته رايس عندما انتشرت أخبار المستوطنات في جبل أبو غنيم بالقدس. فعلى المستوى العام، أعلنت، بلهجة واضحة، وإن كانت معتدلة، عن رفض الولايات المتحدة بناء المستوطنات من البداية، ولكنها أخبرت أولمرت على المستوى الشخصي: بأن لا يسمح بحدوث ذلك مرة أخرى. بينما كانت رسالتها للرئيس الفلسطيني محمود عباس بنفس الوضوح: تستطيع أن تجلس إلى طاولة المفاوضات وتتفاوض للحصول على حدود للدولة الفلسطينية، مما يجعل استئناف المستوطنات غير ممكن، أو يمكنك مقاطعة المفاوضات وترك حركة البناء تستمر.

وبالطبع لم يكن مفاجئا أن يظهر عباس - الذي تعامل مع الهجوم الذي شنه أوباما على إسرائيل باعتباره إشارة لمقاطعة المفاوضات - في مفاوضات رايس. وقد قدمت له إدارة بوش ضمانا على المستوى الشخصي: لن تقبل الولايات المتحدة بأي عمليات بناء للمستوطنات تمت خلال المفاوضات عندما يحين وقت رسم الحدود الإسرائيلية النهائية. وبالنسبة للمستوطنات، تبنت رايس برنامجا براغماتيا كانت تطلق عليه «اختبار غوغل إيرث»، الذي يرتكز على أن المستوطنات التي تم توسيعها على نحو ملحوظ تمثل معضلة، بينما ليست المستوطنات التي تم توسيعها داخل حدودها الموجودة بالفعل، كذلك.

وتعد الميزة الرئيسية في كل ذلك هي أن رايس جعلت كل من الإسرائيليين والفلسطينيين يجلسان للتفاوض، ليس حول المستوطنات، ولكن حول ما هم في حاجة حقيقية للتفاوض حوله - مستقبل فلسطين. وقد تعرض كل من أولمرت وعباس للقضايا كافة: الحدود، ومستقبل القدس والمواقع المقدسة، والتسويات الأمنية وكيفية التعامل مع ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين ما زالوا يعيشون في المعسكرات. وعلى المستوى الشخصي، كانا يتفقان حول الكثير من تلك القضايا.

وفي النهاية، قدم أولمرت لعباس خطة تفصيلية للشكل النهائي للمستوطنات، وهي الخطة التي تلبي المطالب الفلسطينية بما يتجاوز كل ما قدمته إسرائيل أو الولايات المتحدة من قبل، فمن بين عدة أشياء أخرى، اعترفت بدولة فلسطينية عاصمتها القدس مع السماح لنحو عشرة آلاف لاجئ بالعودة إلى إسرائيل.

وهنا تعلم رايس الإدارة الجديدة درسا آخر يبدو أنها لم تستوعبه: إن القيادة الفلسطينية لديها مشكلة في أن تقول «أجل». فبعدما أصبح أمامه مسودة صفقة بإمكانها إسعاد العالم بأسره، تراجع الرئيس عباس، ورفض أن يوقع، كما رفض أن يقدم عرضا مقابلا. وقد دعاه بوش ورايس للانضمام إلى أولمرت في قمة بالبيت الأبيض، حيث كان من المفترض أن يعرض أولمرت خلالها خطته على بوش، وما كان على عباس إلا أن يقول إنها تستحق المناقشة، ولكن الرئيس الفلسطيني رفض.

ويبدو أن ما يقبع خلف الجدال الذي اندلع مؤخرا بين الرئيس أوباما ونتنياهو هو الحسابات التي تفيد بأن تسوية عملية السلام سوف تفرض على الولايات المتحدة أن تختار بين الضغط على الحكومة الإسرائيلية الحالية أو القضاء عليها. وربما يكون ذلك صحيحا، حيث من المستبعد أن يقبل نتنياهو بالشروط التي عرضها أولمرت، ولكن خلف تلك المعضلة تكمن معضلة أخرى وهي تمرد عباس - وهو ما كانت الإدارة الجديدة بطيئة في إدراكه. ولكن كل شيء موجود في وثائق دبلوماسية رايس - ولكن في النهاية لقد كانت تلك إدارة بوش.

*خدمة «واشنطن بوست»