الدور اللبناني في تأسيس الصحافة المصرية

TT

أعادت الصحافة المصرية هذا الاسبوع فتح تاريخ «الشوام» في مصر، مع الاحتفال بالعام 125 على تأسيس «الاهرام» التي بدأت صحيفة سياسية في الاسكندرية قبل قرن وربع القرن ثم انتقلت الى القاهرة لتصبح الصحيفة الاولى ايام الملكية وبعد قيام الثورة. والحقيقة ان تاريخ الصحافيين اللبنانيين مع الصحافة المصرية، ظاهرة اقتصادية واجتماعية، لم تعط الدراسة الكافية ولا الموضوعية الكافية. فكل ما كتب في هذا الباب نقد او تأييد. واشهر ما يذكر مقال لمصطفى لطفي المنفلوطي يهاجم فيه المصريين الذين ينتقدون «الشوام» ويعدّد ضرورات الوفاء لهم ولاعمالهم. وقد تلقف المؤلفون اللبنانيون هذا المقال وصدروا به كل «مختارات» ادبية، بمناسبة ومن دون مناسبة. ثمة حقيقتان: الاولى، هي دور اللبنانيين في تأسيس الصحافة المصرية في القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين («الاهرام»، «الهلال»، «المقطم» الخ) والحقيقة الموازية هي دور مصر في استقبال الصحافيين اللبنانيين وفي فتح الابواب الاقتصادية امامهم وامام الهجرة الكبرى من لبنان الى الاسكندرية. والمنصورة وبور سعيد والقاهرة. فاللبنانيون انشأوا صحافة كبرى في مصر لأن مصر بلد كبير. وفي المرحلة نفسها والتاريخ نفسه ظلت الصحافة اللبنانية في لبنان صحافة محلية حرفية ضيقة، لا توزع كثيراً ولا تعيش طويلاً، فيما كانت «الهلال» اكبر مجلة في العالم العربي و«الاهرام» اهم صحيفة في مصر والعالم العربي ايضاً. ولم يكن اللبنانيون بارزين فقط في حقل الصحافة، بل الذي ساعدهم ودعم وجودهم هو بروزهم كمجموعة اقتصادية صناعية تجارية كبرى في بلد مفتوح للاجانب، يوم كانت الاسكندرية هي الحاضرة المتوسطية الاولى، وميناء المتوسط الذي لا يهدأ، تجارة ونقلاً ومبادلات. وكذلك كانت بور سعيد وحركة القناة. وقد حاز المهاجرون اللبنانيون على الاعتبار بسبب هذا الدور، وليس فقط بسبب دورهم في الصحافة. غير ان الصحافة بطبيعتها تبرز اصحابها، واهلها فيما يميل رجال المال والاقتصاد الى الانزواء الاجتماعي. وقد برز من هؤلاء كثيرون: فاطمة اليوسف، وانطون الجميل، وجرجي زيدان، وكريم ثابت. وكان الجميل رئيساً لتحرير «الاهرام» وعضواً بارزاً في مجلس الشيوخ. اما كريم ثابت فقد انتقل من الصحافة ليصبح المستشار الاول عند الملك فاروق. وكان ثابت يقوم بجميع انواع الخدمات في القصر. وعندما قامت الثورة قيل ان احد اسبابها دور كريم ثابت وقربه من فاروق «ونوعية» الخدمات التي كان يقدمها والتي زادت في الاساءة الى صورة ملك مصر. غير ان كريم ثابت ترك لمصر مذكرات في جزءين. الاول بعنوان «فاروق كما عرفته» والثاني «عشر سنوات مع فاروق». وفي هذه المذكرات يبدو ان الملك كان... كريم ثابت. وان كريم ثابت كان يحاول ان يرد فاروق عن اخطائه ويحاول الحرص على مصر وسمعة مصر ويحاول اقناع الملك بالخط الوطني ويحاول ان يجعل منه ملكاً كريماً لا يسرق الولاعات ولا يسطو على اكواب الكريستال. جاهداً حاول كريم ثابت، القادم من دير القمر، ان يحسن في صورة ملك مصر وفي اخلاقه. لكن ماذا تفعل، فلا حياة لمن تنادي. «عشر سنوات مع فاروق» نبش للقبور، ورجل لا يكف عن رمي القذارة في البئر التي شرب منها عشر سنوات ولا يتوقف عن رشق الرجل الذي رفعه الى قصره، بالبيض الفاسد والعِقَد النفسية المهترئة والكلام الصغير والنفس الدنيئة التي عاشت في كنف الرجل سنوات الحقيقة في انتظار الثأر منه ساعة الكذب والانتقام. وهذه الانفس الصغيرة التي لا تقتات الا من الجثث هي التي فرقت بين المصريين وبين «الشوام». وهي التي سودت سمعتهم وجعلتهم يبدون في مرحلة من المراحل مثل بقية الاجانب واصحاب الامتيازات التي قررت الثورة الغاءها والغاء النظام العثماني الذي وضعها. وبسبب كريم ثابت نسي البعض دور انطون الجميل وبشارة تقلا وجرجي زيدان ومصطفى الرافعي وفاطمة اليوسف، سيدة الصحافة المصرية. ويعدد تحقيق مطول في «روز اليوسف» هذا الاسبوع بعنوان «الشوام في مصر: من ملكية الصحافة الى عضوية البرلمان» 220 صحيفة اصدروها، بينها «الاهرام» و«دار الهلال» و«دار المعارف». ويقول الزميل عاطف حلمي: «اذا كانت «الوقائع» هي اول صحيفة مصرية صدرت في عصر محمد علي، وبها دخلت مصر الى فنون الصحافة والطباعة، الاَّ ان النهضة الحقيقية للصحافة لم تشهدها مصر الا على يد المهاجرين الشوام الذين لجأوا الى مصر طلباً للحرية والامان، فاصدروا عشرات الصحف والمجلات بلغ عددها اكثر من 220 صحيفة في الفترة من 1866 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية». وقد عمل «الشوام» فيما بعد في صحف عربية كثيرة، لكن «الظاهرة المصرية» لم تتكرر في اي مكان. وانشأوا صحفاً ومجلات في المهاجر الاجنبية لكنها لم تعرف العز الذي عرفته في مصر، حيث عومل «الشامي» بصورة عامة كمواطن لا كمهاجر، فارتقى واثرى وافاد من مرحلة الازدهار التي كانت تشهدها مصر. وفي نهاية الامر حدث ما كان محتوماً ان يحدث. فقد انتقل المصريون الى صحافتهم وانتقلت اليهم. وترافق ذلك مع عصر النهضة الذي كان عصر العمالقة في مصر: طه حسين وتوفيق الحكيم والمنفلوطي واحمد امين. وفي العام 1957 انتقلت «الاهرام» نفسها الى محمد حسنين هيكل الذي حولها الى اكبر واغنى دار صحافية في مصر. وبرزت «اخبار اليوم» مع العملاقين، جسماً وصحافة، مصطفى وعلي امين. وظهرت مدرسة صحافية جديدة مع احمد بهاء الدين وكامل زهيري. واصبحت صحافة مصر هي صحافة العالم العربي برمته، من المغرب الى اليمن، منذ الحرب العالمية الثانية الى اواخر السبعينات. ولم تستطع الصحف الصادرة في لبنان بعد ذلك ان تبلغ الانتشار الذي عرفته صحف مصر، برغم خروجها الى الاطار العربي والافاق العربية. وكان اول من حقق ذلك الراحل كامل مروة الذي نقل «الحياة» من صحيفة لبنانية الى صحيفة عربية الهموم والتطلعات. وما لبثت «النهار» ان شقت طريقها هي ايضاً الى السمعة العربية وسعة الانتشار والخروج من الاطار المحلي. لكن الصحافة اللبنانية لم تعرف في الداخل، في اي مرحلة من المراحل، العز الذي عرفته في مصر.