في جو البلبلة تطرح إسرائيل «نظرية الجدران» الفاصلة

TT

سقطت من يد «أرييل شارون» ورقة الرهان على استحقاق مائة يوم أجلا أقصى للقضاء على الانتفاضة الفلسطينية. والانتفاضة اليوم في شهرها الحادي عشر وهي ما تزال غَضَّة لم ينلها ضعف أو وهن. ترتعد من هولها فرائص الاسرائيليين الذين عمَّهم الهلع وغشيتهم البلبلة وصُعِقوا لنذيرها. وهم كلَّ يوم ولحظة في ذُعر شامل يحسبون كل صيحة عليهم.

ليس مُهما ضروبُ العنت وأشكال المعاناة التي يقاسيها شعب فلسطين البطل، يتحملها في أرواح شهدائه ومدنييه، وتخريب منشآته، واحراق أراضيه، وسقوط قيادته بنار الاغتيال الممنهَج، وخضوع اراضيه للمزيد من الخراب، وتشريد فصائله بين مدن فلسطين وقراها. فتلكم ضريبة أدت ما يقاربها شعوب أخرى، وانتصرت بها على البغي والعدوان والاحتلال، وذلك بالرغم من ان الضريبة التي يؤديها هذا الشعب لا تقارَن بسوابقها عبر العالم، لأن الكفاح الفلسطيني المثير للإعجاب والإكبار لم يتقدم له مثيل في تاريخ حركات الشعوب التي لم تعرف قط الهزيمة بل كانت عاقبتها دائما الى خير، ونهايتها دائما إلى نصر.

الأهم من ذلك ما يعانيه شعبُ اسرائيل نفسَه من إحباط وشعور بالهزيمة، وهو يرى الانتفاضة ماضية على طريقها بخطوات وئيدة ثابتة وقلوب مطمئنة. بينما يرى نفسه أسير سياسةٍ مغامِرةٍ قذف به إليها رئيسه الذي صوت هو عليه بأغلبية، وعلق عليه الأمل لتحقيق ما وعد به من سحق الانتفاضة في أجل مائة يوم. وكان الوعد كاذبا والخيبة مريرة.

عِبَرٌ كثيرة يمكن استخلاصها من صراع الانتفاضة مع الاحتلال. من بينها ان الشعوب لا تُقهَر بالقوة وأسلحة الدمار، وأن الدول يمكن ان تُهزَم في حرب، ولا كذلك الشعوب التي تَهَبُ نفوسها للموت وتَحُلّ معادلة الموت والحياة بهذه الطريقة. بينما القوات الاستعمارية تبقى متشبثة بالحياة وحريصة عليها (واليهود أحرص الناس على حياة) يوبخها وخز الضمير بأنها إنما تجر شعوبها الى خطر الهزيمة المؤكدة، وأنها تحاول عبثا الدفاع عن قضية لا تقبل الدفاع.

وجميع الأخبار الواردة من اسرائيل تتضافر لتأكيد ان اسرائيل حكومة وشعبا دخلت بعد الشعور بالهزيمة أمام الانتفاضة في مرحلة البلبلة والذُّعر والإحباط. أليس ان حكومة «شارون» قد استعملت جميع ما تملكه من أسلحة لقهر قوة الانتفاضة وفشلت؟. ولم يبق لها ما تضيفه الى فظائعها سوى ان تلجأ الى السلاح النووي. لكنها لا تستطيع استعماله ضد التراب الفلسطيني لاشتباك اطراف الارض الفلسطينية والاسرائيلية بعضهما ببعض، ولا بد ان ترتدَّ تساقطاتُ القنبلة الذرية الى العاصمة تل أبيب والقدس وبقية الأراضي المحتلة. ومُكرَه أخاك لا بطل.

لقد ضربت الانتفاضة عمق الاقتصاد الاسرائيلي فزلزلته من قواعده. إذ تراجعت قيمة «الشيكل» الاسرائيلي، وارتفع حجم التضخم النقدي، ونزل معدل السياحة هذه السنة، وتصاعد هروب المستعمِرين (الذين اصطُلِح على تسميتهم بالمستوطِنين) وتوقفت هجرة ما بقي من اليهود في الخارج إلى اسرائيل، ومرَّ الدخول المدرسي في ظروف ذُعر وقلق على المدارس والمعاهد والتلاميذ والطلبة، وتحت حراسة كتائب الجيش، وارتفعت نسبة البطالة، ونضب مَعِين الاستثمارات الخارجية، وانخفض أداء سير المعامل والمصانع، خاصة التي كانت تعمل بأيدي عمال فلسطينيين.

وأظهرت الإحصائيات التي نُشِرت في اسرائيل انه خَفَتَ الحماس الشعبي لتأييد مغامرة «شارون» الفاشلة عما كان عليه في الأيام الأولى لتأسيس حكومة الحاخامات والعسكر، وأن المظاهرات التي يقوم بها الفلسطينيون لتجريم «شارون» تشارك فيها فعاليات اسرائيلية تضامنا وتعاطفا مع شعب فلسطين وخوفا على المصير الاسرائيلي.

وفي خضم هذه البلبلة العارمة يحاول «بيريز» ان ينقذ اسرائيل من ورطتها بالالتقاء بالرئيس عرفات، لكن هذا الاجتماع اذا انعقد لن يحمل جديدا، لان صلاحيات «بيريز» محدودة، وهامش مناوراته يضيق تحت ضغط شراسة الانتفاضة. لذا تطلب اليه قيادات من اسرائيل ان يستقيل وان يتخلى حزب العمل عن مواصلة تواطئه مع «شارون»، عسى ان تنهار الحكومة بدون ان يتحمل حزب العمل مسؤولية جرائمها.

وقد انعقد في الأسبوع المنصرم مؤتمر «ديربان»، وهو إن لم يعلن مساواة الصهيونية مع العنصرية، فإن اصوات المواطنة العالمية أعلنت في مظاهراتها إدانة صهيونية اسرائيل بوصفها حركة عنصرية. والمؤتمر نفسه أكد ذلك بعد جدال طويل انتهى بانسحاب الوفدين الامريكي والاسرائيلي من المؤتمر.

ومن يتابع الصحافة الأوروبية هذه الأيام يلاحظ التطور الذي طرأ على توجهاتها وتغير تقييمها الجديد للعمل الاسرائيلي الإجرامي، وكل ذلك يزيد في جو البلبلة التي تعيش فيها اسرائيل التي يبدو انها تعاني من عدد من الانتفاضات التي قامت عليها عبر العالم.

ويساهم في حملة الإعلام الأوروبي المنتقد لاسرائيل ليبراليون من مختلف ألوان الطيف السياسي بمن فيهم يهود واسرائيليون أوروبيون جردوا اقلامهم ورفعوا اصواتهم لاستنكار الاجرام الاسرائيلي وتسميته باسماء متعددة. وكلهم يلتقون على شجبه وادانته.

والفكر الاسرائيلي يجتهد هذه الأيام في العثور على منفَذ للخروج من الورطة. وآخر ما انتهت اليه «عبقريته» الترويج لما أُطلق عليه المنظرون «نظرية إقامة جدار فاصل بين اسرائيل وفلسطين». ويقضي هذا الحل بالفصل بين الطرفين بإقامة حواجز ممتدة طول الحدود بين الجانبين تَحبِس ـ بمقتضاه ـ اسرائيلُ نفسها وراء الأسوار، وتحصِّن حدودَها بالألغام المتفجرة والأسلاك الكهربائية، وتترك الفلسطينيين وأنفسهم بعيدين عنها في جزيرة يقيمون فيها دولتهم إن شاءوا، لكن لا تربط اسرائيل بهم أي علاقة.

وهم يرون ان فكرة الفصل هذه ستضمن لهم أمنهم الذي لا يجدون إليه الآن سبيلا، وان هذا «الحزام الفولاذي» الذي سيلُفُّونه على خاصرتهم هو وحده الذي اصبح قادرا على حل مشكل النزاع. وقد سمي هذا الحل باسماء شتى. فهو على لسان بعض الاسرائيليين «نظرية الجدار» (على وزن جدار برلين)، وعند البعض الآخر «حزام السلامة»، وعند فريق ثالث «حل الفصل» (على وزن الفصل العنصري)، أو «الفراق الأبدي».

والمتحمسون لهذا الحل «العبقري» يرون ألاَّ مناص لاسرائيل عنه بعد ان تبين ان الانتفاضة لن تتوقف، خصوصا وقد توقع لها بعضهم ان تمتد على الأقل إلى سنة 2006 إن لم تطل أكثر. لذا ينصحون بان يتم «الفراق» عاجلا وبدون اتفاق سابق، ويُترك الفلسطينيون في «جزيرتهم» الواقعة على اجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة دون ان تطلب اسرائيل منهم أي شيء، وهم يراهنون على ان فلسطين ستدخل في عهد «استقلال عزلة» تتجرع منه الموت البطيء الى ان تلفظ انفاسها. تلك أمانيهم.

ويقول الاعلام الاسرائيلي إن «نظرية إقامة الجدران الفاصلة» تلقى من فصائل شعب اسرائيل تعاطفا متزايدا... وإن وزراء في حكومة «شارون» يرونها الملاذ الأخير للخروج من الورطة التي يبدو ألا منفذ لها سوى هذا الحل العجيب.

وتزيد الصحافة الاسرائيلية أن هذا الحل ليس جديدا إذ سبق لإسحاق رابين ـ حسبما تدَّعي ـ ان فكر فيه. لكن تضيف ان «شمعون بيريز» يروّج له وسيعرض على الرئيس عرفات حين يلقاه في هذا الأسبوع جزءا منه في مقايضة انتقالية، قوامها ان تترك اسرائيل للسلطة الفلسطينية في هذه المرحلة قطاع غزة بالتمام والكمال تفعل به ما تشاء مقابل وقف إطلاق النار، على ان تُطبَّق المرحلة الأخرى الخاصة بالضفة الغربية في وقت لاحق.

هكذا تتشبث اسرائيل كالغريق بكل ما تلقاه للخروج من خضم الموجة المتلاطمة الخطيرة التي وقعت فيها، لكن هذا الحل ـ إن كان يبدو نظريا ممكنا ـ فهو عسير التطبيق، وله مخاطره التي يثيرها عليه معارضوه والمحذرون من عواقبها.

والمهم في هذا كله ان اسرائيل ما تزال لم تستخلص العبرة من هزيمتها، بينما العبرة الوحيدة التي عليها استخلاصها هي حل النزاع بالالتزام بالمقررات الشرعية الدولية التي توفر للطرفين مخرجا مشرفا لا غالب فيه ولا مغلوب.