سنوات في مصر 23: الرؤساء يموتون أو يقتلون أو يستقيلون .. ولكنهم لا ينتحرون!

TT

كانت دائرة عملي الصحفي تكبر وتتسع لكي تشمل بلدان العراق ولبنان وسوريا والاردن..! والاردن هو «اقرب» بلد الى فلسطين، والاردن هو «ابعد» بلد عن فلسطين! والمعنى الجغرافي، لم يخفف من ويلات المعنى السياسي! والارض التي ارادها «الشريف» الحسين بن علي في ثورته الكبرى ضد الاتراك ان تكون جزءا «حرا» من الوحدة العربية الكبرى، هي نفس الارض التي ارادها الاستعمار البريطاني ان تكون جزءا من الوطن القومي اليهودي ـ جنبا الى جنب ـ مع فلسطين المستسلمة للانتداب البريطاني بموجب المادة 22 من ميثاق عصبة الامم! وبلاء الاردن القادم اليه من اصدقائه الانجليز بعد الحرب العالمية الاولى، هو مقدمة ويلات الاردن القادمة اليه من اعدائه اليهود بعد الحرب العالمية الثانية! وليس على المواطن العربي العادي الا ان يطلع على عبارة معينة وردت في الكتاب القديم والمشهور للمستشرق والسفير البريطاني السابق في العاصمة الاردنية السير «اليك كيركبرايد» وهي في الصفحة 19 وتعود الى يوليو عام 1920 وتقول بالحرف الواحد «كانت حكومة صاحبة الجلالة البريطانية مشغولة جدا في اقامة ادارة مدنية في فلسطين، غرب نهر الاردن ولا يهمنا مطلقا الالتفات او التفكير في مناطق اخرى نائية وقاحلة تقع على الشرق من نهر الاردن والتي كان المقصود من وجودها ان تكون ارضا ثانوية تحت الطلب Reserve لكي يتم استعمالها في اعادة توطين العرب بعد ان يتم انشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين، ذلك الوعد الذي تعهدت بريطانيا بمناصرته وتنفيذه حتى يصبح حقيقة قائمة».

ويكمل السير اليك كيركبرايد ـ وهو من دهاة السياسة الاستعمارية ومهندسيها في الشرق الاوسط ـ كلامه بقوله انه لم يكن لدى بريطانيا اي تفكير في تحويل الارض الواقعة شرق النهر الى دولة مستقلة عربية! وسموم الافعى التي لم ينفثها «كيركبرايد» في اعقاب الحرب العالمية الاولى قد تولى مهمة نفثها رجال من طراز الجنرال «غلوب باشا» و«بيك باشا» خلال الثلاثين سنة التي شهدت مولد الاردن كدولة عربية شبه مستقلة. وتشابكت مصالح البلدين ـ الاردن وفلسطين ـ وتضاربت خطواتهما..! وكان المفروض عند الانجليز، ان يبقى الاردن هو الدولة الحائط او السور او الحاجز الذي يحمي اسرائيل من اخطار العرب في دنيا الشرق، بينما كان المنتظر من الاردن عند العرب ان يكون القوة الادنى التي تحمي فلسطين من اليهود.

وبسبب احداث فلسطين وحروبها وتقلباتها، خسر الاردن مؤسس مملكته واول ملوكه! وبسبب الاردن وتقلبات احداثه، وبالتحديد بسبب الجنرال غلوب ـ واعوانه ـ وامثاله مع مجموعة من رجال السياسة المراهقين والمحترفين الاردنيين العرب من امثال توفيق ابو الهدى، خسرت فلسطين قلب ارضها في القدس، والمثلث! وغيرهما. وكان المفروض ان تكون الارض واحدة، وان يكون المصير واحدا، بدلا من ان يصبح الطرف الواحد مصدر متاعب للطرف الآخر او ان يقع الطرف الآخر ضحية للطرف الواحد! كنت في مصر، على رأس عملي الصحفي، عندما وصلتنا الاخبار المفاجئة بأن «توفيق باشا ابو الهدى» انتحر! ترى من هو توفيق ابو الهدى؟ انه الشخصية الاولى على مسرح الاردن السياسي منذ عام 1954 حتى عام 1960! وكان استاذنا محمد التابعي يقول لي: ابو الهدى ده مصيبة! وكان حسن صبري الخولي ممثل عبد الناصر يستعيذ بالله من ابو الهدى، وكان صلاح نصر لا يهمه من الشخصيات الاردنية سوى توفيق ابو الهدى. وفي دهاليز السياسة وفي مؤامرات الحرب وفي مكاتب القصر الملكي وفي مؤتمرات لندن وعمان والجامعة العربية، كان توفيق ابو الهدى هو «عامود الخيمة» ومحرك الامور! انه هو الذي قال للانجليز، ولأرنست بيفن ـ وزير الخارجية ـ بالذات، قبل حرب عام 1948 وقبل وقوع النكبة، ان الاردن سيدخل الى ارض فلسطين مع بقية الجيوش العربية ولكنه لن يتعدى حدود التقسيم.

توفيق ابو الهدى الذي قرر ان يتهرب من مسؤولية تمديد الهدنة الاولى في حرب فلسطين ـ وكان الاجماع العربي بأسره يهدف الى تمديدها بسبب المعونات العسكرية المخيفة التي انهالت على اسرائيل خلال ايام الهدنة مما جعل الموقف برمته ينقلب لصالح اليهود ـ ولكن ابو الهدى الذي كان رئىسا للوزراء قدم استقالته الى الملك عبد الله ـ فجأة ـ تهربا من مسؤولية الهدنة وخوفا على شعبيته في الشارع العربي! وحسب علمي، ومعلوماتي، فانه اراد الحصول من الملك عبد الله الاول على اجازة قصيرة يسافر خلالها الى لبنان للراحة والاستجمام بينما كان قصده الحقيقي ان يبقى بعيدا عن المسؤولية عندما بدأ لقاء الوفد الاردني مع الوفد الاسرائيلي في فبراير عام 1949 في جزيرة رودس للتوقيع على اتفاق هدنة دائمة! ولكن اليهود اصروا على ان يكون توفيق ابو الهدى بالذات على رأس الموقعين الاردنيين مما ارغمه على البقاء في الاردن، وان يتحمل المسؤولية! وعندما ارادت بعض الشخصيات الفلسطينية المشاركة في الوفد الاردني الى «رودس» للمساعدة في رصد المواقع والحدود والمدن والقرى خلال المفاوضات.. اقول عند ذلك، اوعز الى العسكريين الاردنيين برفض الطلب الفلسطيني لان المفاوضات «حسب قولهم» كانت محصورة في النطاق العسكري فقط! وبسبب كل ذلك، جرت المفاوضات حسب اهواء اليهود وفي ظل التراخي الاردني وضاع المثلث العربي من قلب ارض فلسطين الى اليهود. وسمعت ـ بأذني ـ الدكتور رالف بانش الوسيط الدولي يقول معلقا: ان اليهود طلبوا من العرب اعطاءهم البنطلون فقط، ولكن العرب اعطوهم ـ عن طيب خاطر ـ البنطلون والجاكيت والقميص!! وكان المسؤول الاول والاكبر عن كل ذلك هو دولة السيد توفيق ابو الهدى رئيس الوزراء الاردني. وعندما اغتيل مؤسس المملكة الاردنية، عبد الله بن الحسين، كان السيد سمير الرفاعي رئيسا للوزراء لولا ان الضغوط والممارسات السرية ارغمت سمير الرفاعي على الاستقالة وجاءت بتوفيق ابو الهدى في مكانه. وعندما جاءت الى عمان بعثة رسمية عراقية يرأسها الامير عبد الاله، وتضم نوري السعيد وصالح جبر في مهمة ظاهرها تقديم التعزية في وفاة الملك، ولكن باطنها كان التباحث في امر العلاقة المستقبلية بين بغداد وعمان، بقي ابو الهدى ـ وحده ـ محور التباحث بينه وبين زميله نوري السعيد! وكانت الحقيقة المعروفة لدى الجميع ان توفيق ابو الهدى هو الصديق العزيز المقرب الى قلب نوري السعيد، وانه هو المحامي الاول لقيام اتحاد هاشمي جديد يضم العراق والاردن، وان الزعيم الفلسطيني الراحل موسى العلمي هو الذي قام بدور الوسيط في ربط تفكير الرجلين الزعيمين وتشييد روابط الحب والتفاهم بينهما حيث كان توفيق ابو الهدى على صداقة وثيقة مع «العلمي» عندما اشتغل معه مديرا للمشروع «الانشائي العربي» الذي اسسه «العلمي» في اواسط الاربعينات في القدس، وكان الجنرال البريطاني «كلاينتون» هو الوسيط، وكان العراق هو الممول لنفقات المشروع برمتها! ولكن.. ورغم كل ذلك.. ورغم العقول المتجانسة والمصالح المترابطة، وبصورة مفاجئة عجيبة وغريبة لم يتوقعها أحد، ولم ينتظرها اي مسؤول، انقلب السيد توفيق ابو الهدى على سياسة التقارب بين العراق والاردن واعلن الحرب على اي اتحاد هاشمي منتظر أو اي تعاون قريب بين البلدين!! كما غسل يديه من نوري السعيد نهائيا! لماذا؟ وما هو السبب؟ وما هو السر؟

الجواب جاهز جدا! فقد كان الرجل ـ اعني ابو الهدى ـ ضعيفا جدا امام المال وعندما سافر بدعوة رسمية الى احدى الدول العربية وعاد منها مثقلا بالهدايا والجواهر والمال «النقدي»، لم يستطع مقاومة الاغراء فباع المشاريع والاتحادات والتقارب والضم، وارتمى في احضان الثروة وحبات اللؤلؤ! هذه واحدة.

اما الثانية فقد جرت عندما شعر ابو الهدى ان الشارع الاردني، الذي يحمل للأمير طلال بن عبد الله الكثير من الود والتقدير، راح يتهم الانجليز بانهم يحاربون اسناد العرش الى اكبر انجال الملك عبد الله، فإذ بالسيد ابو الهدى يخوض المعركة وينزل الى الميدان ويتحول الى اكبر محام في الدفاع عن حق «الامير» طلال في العرش الاردني خلفا لوالده، وان الاردن لا يريد الانضمام الى اية وحدة او اتحاد مع العراق قد تسلب «طلال» حقه في العرش الهاشمي الاردني! لقد شاء القدر ان يهيئ للعرب في وجه سياسات ابو الهدى اميرا شابا مثل طلال بن عبد الله والد الحسين بن طلال، اذ بينما كان الامير عبد الله يعمل على اخماد حركة رشيد الكيلاني ضد الانجليز في العراق، كان طلال يرفض علنا قيادة مفرزة عسكرية في اطار القوات البريطانية المتوجهة الى العراق، كما ان طلال حاول تأليب القبائل البدوية في الاردن لاعاقة تقدم القوات البريطانية وهي في طريقها الى العراق مما ادى الى تمرد بعض المفارز العربية في القوة العسكرية التي قادها الجنرال غلوب باشا في الرطبة للقضاء على ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق.

وعندما قرر برلمان الاردن تنحية الملك طلال ـ بسبب تدهور حالته الصحية ـ والمناداة بابنه حسين بن طلال ملكا، مع انشاء مجلس وصاية مكون من ابراهيم هاشم وسليمان طوقان وعبد الرحمن شبيلات.. اقول عند ذلك قرر ابو الهدى ان ينفرد بالسلطة ويتصرف كأي ديكتاتور فرد طاغية لا يجد امامه اي معارض او يعطي لأي مخلوق حق محاسبته! لقد امعن الرجل في تنفيذ اوامر الاعتقال ضد معارضيه واضطهد الصحافة! واستهان بكرامة الرجال واستغل استغلال منافسيه قانون الدفاع كأسوأ استغلال وداس بقدميه على معاني الحريات والكرامات! وقد تسنى لي ان احضر الجلسة التاريخية للمجلس الاردني في 11 نوفمبر عام 1952 وان ألمس مع الاسف والحزن الشديدين مدى الانشقاق الذي طرأ على العلاقة بين الفلسطينيين والاردنيين سواء داخل ذلك البرلمان ام على مستوى الشارع الاردني العام، فقد اوشك ابو الهدى ان يحطم كل قواعد السياسة الودية التي نتجت بين الاردني والفلسطيني منذ مؤتمر اريحا حتى ذلك اليوم، الى ان جاءت ساعة الخلاص في اليوم الثاني من مايو من عام 1953 حيث تسلم الحسين بن طلال سلطاته الدستورية.

ونزولا عند ارادة الشعب، وتحت الضغوط الشعبية والنقمة العارمة من مختلف انحاء البلاد، قدم ابو الهدى استقالته. وجاءت اول حكومة في عهد الملك ـ الحسين بن طلال ـ برئاسة الدكتور فوزي الملقي..! وكانت اول حكومة في تاريخ الاردن تضمن بيانها الوزاري عبارات جديدة مثل وطنية «دستورية» ومثل «حكم الشعب» و«رغبات الشعب» و«حاجات الشعب».. الخ!. وبادر الملقي ـ وهو الطبيب البيطري الذي لا يفتقر الى الثقافة العامة والذكاء ـ بالافراج عن الفسطينيين وطرد الموظفين المشبوهين وانقلبت الاوضاع من حكم عسكري ظالم كان يقوده توفيق ابو الهدى الى حكم ديمقراطي يرأسه الدكتور فوزي الملقي..! ولكن «ابو الهدى» حتى بعد استقالة وزارته لم يهدأ ولم يستقر، اذ استمر يعارض وزارة فوزي الملقي ويدس عليها مستعينا بضعف شخصية الملقي وتهاونه وكرم اخلاقه! وكان الملك يعالج ضربات ابو الهدى بدعوة الملقي واعضاء وزارته الى تناول الطعام على مائدته.

لولا ان كل تلك المهدئات لم تنفع عندما طلب الملك من فوزي الملقي استقالة الحكومة في اول من مايو من عام 1954. وخرج فوزي الملقي من الباب لكي يعود توفيق ابو الهدى رئىسا جديدا للحكومة من الشباك!! وتلقى الشارع الاردني عودة الديكتاتور بالكثير من الاسى والالم! وحاول ابو الهدى ان يمتص النقمة فوعد باحترام الحريات واحترام الاحزاب وعدم التعرض للقوانين الحرة التي صدرت عن البرلمان السابق..! وعندما طرح ابو الهدى وزارته امام النواب للحصول على ثقتهم في الداخل جرت اغرب حادثة في تاريخ البرلمان الاردني، عندما اعطى النواب ثقتهم للحكومة، ولكنهم حجبوها عن شخص توفيق ابو الهدى الذي هو رئيس تلك الحكومة!! واستبدت الدهشة بتوفيق ابو الهدى امام هذا الحدث المفاجئ الذي جاء قبل دقائق محدودة من طرح الثقة واستسلم لطبيعته الدكتاتورية، وقرر حل البرلمان!! لقد ضرب ضربته واستهان بالسلطة التشريعية واستراح، ثم مضى ينتقم ويتشفى ويحكم بالحديد والنار..! اغلق الصحف، وحظر الاجتماعات العامة، واستمر في سياسة الاعتقالات واصدار اوامر النفي الى المعتقلات الصحراوية الاردنية!! وجرت انتخابات جديدة.. وعاد الملك حسين وطلب من ابو الهدى تشكيل الوزارة الجديدة، وقال لي سعيد باشا المفتي، وهو يحدثني عن تلك الفترة الشاذة من تاريخ الاردن في منزله بعمان: ان الملك يريد ابو الهدى للحكم ويريدني الاشتراك بهذا الحكم ولكن لي شروطا بأن اشرك معي في الوزارة خمسة او ستة من اصدقائي السياسيين الذين هم في طليعة رجال الاردن ومنهم الدكتور فوزي الملقي وحكمت المصري ولكني ـ والكلام للسيد سعيد باشا المفتي ـ لا ادري ما سر هذا الحب الطارئ من الملك الشاب لواحد مثل توفيق ابو الهدى. انا لا اقدر ان اشترك في الوزارة الجديدة بعد فشلي في الانتخابات الاخيرة! ولكن الملك وابو الهدى يضغطان علي لكي اتعاون مع هذا «الثعلب» ويقصد ابو الهدى! في تلك الاثناء ذهب ابو الهدى الى بيروت ومعه كريمته سعاد ودعاني لملاقاته ولتناول الشاي معه على تراس «فندق سان جورج» المطل على بحر بيروت! وكنت قد حاربته على مدى الشهور الماضية بلا هوادة في مختلف صحف «اخبار اليوم» في القاهرة وقال لي وهو يقدمني لكريمته «سعاد» التي كنت اعرفها جيدا: يا سيدي انا اردت ان نلتقي كعائلة واحدة وان نتصارح ونتصافح ونتعاتب..! ثم اضاف: لا انكر انني بسبب احداث الماضي وظروفه قد قسوت عليك، ولكنك رددت تلك القسوة بأضعافها وهاجمتني وطلبت من الناس اغتيالي! وقلت له انا قاطعا عليه كلامه: ان كل ما اريده من «دولتك» الآن هو ان تسمح لي بالاطلاع على دفتر مذكراتك السياسية وبالأخص عن «النكبة» التي اضاعت مني.. وطني! واشتدت الدهشة بوجه ابو الهدى وقال بصوت عال سمعه بعض الحراس من حولنا: ان سعاد ستحمل لك فصولا من هذه المذكرات التي ارجو ان تعيدها لي بعد الاطلاع عليها.

وسمعت «سعاد» كلام والدها جيدا...! ولا ادري كيف، ومتى، تولى احد حراس توفيق ابو الهدى في تلك الساعة بنقل الكلام بعد اقل من ساعة واحدة الى الملكة زين، والدة الملك حسين، التي كانت تقيم في نفس الفندق والتي اتصلت هاتفيا بأبو الهدى وطلبت منه ان يسلمها فورا ـ نسخة من دفتر مذكراته قبل ان يعطيها لأي فرد...! واختفت مذكرات الديكتاتور قبل ان اطلع عليها.

وقررت ان اغسل يدي نهائيا من هذا الرجل الكريه! لقد قضينا ذلك اللقاء على تراس السان جورج وهو يوجه السهام الى كل سياسي محترم في دنيا الاردن. واذكر انه عندما جاء على ذكر الدكتور فوزي الملقي قال لي بالحرف الواحد: لقد هانت الامور حتى اصبح شخصا مثل فوزي الملقي رئيسا للحكومة..! ثم اضاف، والله شاهد على صحة هذا الكلام: انا اذكر جيدا انني ذهبت ذات يوم وبالتحديد في اوائل عام 1950، لمقابلة الملك «عبد الله» لكي اقول له انه يملك تمام الحرية في اختيار من يشاء لأي منصب في الحكومة الاردنية وهذا من حقه باستثناء شخص «رئيس الحكومة» الذي يجب ان تتوفر فيه عناصر الثقافة والشخصية المجربة والجرأة والولاء والامانة!! وان فوزي الملقي لا يملك شيئا من هذه الصفات! وان مجيئه الى رئاسة الحكومة سيعني «اهانة» للمنصب الذي ادافع عنه واحافظ على كرامته! واستمعت الى هذا الكلام، وابو الهدى يعلم ان فوزي الملقي كان من خيرة اصدقائي فأجبته قائلا: ان ولاء الدكتور الملقي للعرش الاردني والاسرة المالكة ليس محل شك يا باشا! قال وصوته يعلو: بالعكس تماما! انه سمح لنفسه ان يزعم بأنه المحسوب المدلل على بلاط الملكة زين، وانها لا تقبل بأي شخص آخر رئيسا للحكومة..!!! قلت: أليس في هذا بعض التجريح وبعض الافتراء يا دولة الرئىس؟

واجابني مقاطعا: يا سيدي لست انا الذي يقول هذا الكلام! انه كلام الدكتور «فوزي الملقي» نفسه الذي يزعم لنفسه امورا كثيرة غريبة لا اسمح لنفسي بأن ارددها! حقا لقد زاد ألمي من توفيق ابو الهدى، كما زادت كراهيتي له.. فقد يكون فوزي الملقي كزميله هزاع المجالي، ما زالا يومئذ في مقتبل العمر وما زالا يفتقران الى التجارب والتواضع والثقافة السياسية التي كان يتمتع بها ابو الهدى! بل لعل شابا كهزاع المجالي، كان دوما اسير طموحاته السياسية وحبيس تطلعاته للزعامة وللرئاسة، ومثله الدكتور فوزي الملقي، ولكن هزاع، كالملقي، بقيا نموذجا فذا ومقبولا للجيل الاردني العربي الصاعد، القادر على ان يملأ الفراغ وان يتبوأ مكانه في المستقبل بلا عقد ولا دجل... ولا فساد! ولا اعرف انني بكيت شابا كما بكيت اخي وصديقي وزميلي في بلاط الملك عبد الله بن الحسين، العزيز الراحل «هزاع المجالي...!!». كما لا اعرف انني استرحت الى صداقة انسان سياسي، كما استرحت الى صداقة الدكتور الانسان فوزي الملقي! ومما لا شك فيه انني كنت في معظم الاحيان، اصاب بشعور القرف الشديد عندما كنت اغادر القاهرة الى «عمان» لكي اكتب عن معارك الانتخابات او بيانات الوزارات الجديدة، حيث كنت أشم روائح الرشوة والفساد تلازم تصرفات كبار الوزراء وكبار الضباط وهم يمارسون خطوات المصير لهذا البلد الصغير.. الفقير! لقد سمعت من هزاع المجالي ـ مثلا ـ ان وزير خارجية معروف في الاردن ذهب الى سفارة العراق في عمان وطلب «مالا» لكي يدفع لصحافة مصر ما تطلبه مقابل الترويج للسياسة العراقية تجاه الاردن وتجاه حلف بغداد في تلك الايام العصيبة! كما سمعت ان الوزير المذكور قبض ما فيه النصيب وابقى المال في جيبه ولم يدفع شيئا لأي مخلوق! وسمعت من فرحان شبيلات، رئيس الديوان الملكي ان علي ابو نوار عندما سمع من الملك حسين انه عازم على طرد «غلوب باشا» من رئاسة الجيش الاردني ذهب سرا الى سفارة دولة عربية كبرى في عمان وادعى امامها بأنه صاحب فكرة عملية طرد غلوب ومهندسها وراعيها، ثم طلب مساعدته ماليا على تنفيذ بقية الخطوات! وتكررت قصص مشابهة وانتشرت روائحها وبقي توفيق ابو الهدى بلؤمه وجشعه وانانيته واسلوبه في الحكم وفي الحياة، يحمل اكبر وزر من هذه الاعمال الشاذة! وانا لا اعرف سياسيا او رئيسا مسؤولا هاجمته بسهام قلمي وخالفت في مهاجمته اصول اللعبة، وطعنته بلا رحمة ولا هوادة، كما هاجمت توفيق ابو الهدى...!

*** كنت في مكتبي في صحافة مصر، عندما قدم توفيق ابو الهدى في شهر يوليو عام 1956 على الانتحار بأن شنق نفسه في حمام منزله؟ وعادت بي الذكريات الى ايامي مع ابو الهدى وايامه معي...! اجل لقد كنت حليفا سريا للقصر الملكي ولاخي الراحل سمير باشا الرفاعي ـ رئيس الوزراء الاسبق ـ في مصارعة ابو الهدى ومحاولة الحد من ديكتاتوريته! وكان صديقي سمير الرفاعي يزودني دون انقطاع برسائل خاصة تحمل لي التفاصيل وتصرفات تلك الاسرار ضد الشعب والبلد! وكنت انشر تلك الاسرار في صحف الاخبار، «اخبار اليوم»، و«آخر ساعة» و«الجيل الجديد» مع كل ما كان يصل لي من صور ورسائل، من اصدقاء لي، مثل هزاع المجالي وحيدر شكري وحكمت المصري وقدري طوقان، وغيرهم. ولا اكشف سرا لو قلت ان انتحار ابو الهدى قد مدني بالكثير من السرور والتشفي! ولم اصدق ان ابو الهدى قد اخذ حياته بيده! فقد قيل يوم ذاك ان شخصية اردنية كبيرة هو الذي زاره في منزله عند منتصف الليل وقيد يديه ورجليه وعلقه في حمام المنزل لكي يبدو وكأنه قد شنق نفسه! لقد عاش ابو الهدى لا يعرف صديقا ولا قريبا! وعاش وهو لا يتعرف على زوجته ولا يتكلم معها ولا يزورها ولا يسمح لها بزيارته.. ومات وهو على تلك الحال الكئيبة! وقد عاش والكثير من الجهات الدبلوماسية المتنفذة ومن رجالات العائلة المالكة، ومن «سيداتها» لم تر فيه الا عدوا كريها لأكثر من سبب... ولكن، يبقى السؤال بلا جواب ولا تفسير: من قتل توفيق ابو الهدى؟!

*** انا اقول إن تجربتي الضعيفة في عالم الاردن ـ على وفرتها وضخامة صفحاتها ـ لم تساعدني على الوصول الى الجواب المطلوب! فقد عشت في الاردن وانا لا اسمع الا اشاعات ووشايات ومؤامرات. كان سليمان النابلسي يهاجم امامي ابو الهدى وسمير الرفاعي! وكان سمير الرفاعي يشتم ابو الهدى والملقي وسعيد المفتي! وكان هذا الاخير يشتم البرلمان وجميع النواب! وكان ابراهيم هاشم يستنشق في أنفه دخان «العطوس» النابلسي الخالص «ثم يعطس ـ على الطريقة النابلسية ـ تستبق العطسة ضد جميع الرؤساء والوزراء في عالم الاردن! وكان البعثيون يهاجمون القصر! وكان القصر يرد سرا على البعث والشيوعيين! وكان هزاع المجالي يهاجم علي ابو نوار! وكان اتباع الشام يهاجمون اصدقاء بغداد، وكان نواب الضفة الغربية يولولون من طيش ودس نواب الضفة الشرقية! وكان الكل ضد الكل والجميع ضد الجميع! حقا مجتمع مليء بالكراهية والحسد.. «مجتمع الحسد والنميمة»، كما كان يسميه صديقي الراحل سعد جمعة، رئيس وزراء الاردن السابق.

أعود واسأل:

ـ من هو المسؤول عن مقتل توفيق ابو الهدى...؟

ـ واجيب: القاتل هو المستفيد من وراء مقتله...

ـ ويأتي السؤال؟

ـ ومن هو المستفيد من مقتل توفيق ابو الهدى..؟

ـ واجيب: الاردن كله، بجميع احزابه، وفئاته وتجاره، واعيانه وعماله، هو المستفيد! لأنه ـ هذا الاردن الحبيب ـ هو بالذات الذي عاش ورأى نهاية الطاغية، ونهاية المكر والخداع ونهاية الدساس والمؤامرات. لقد استغل ابو الهدى ـ بكل شطارة ـ تطاحن الاحزاب في الاردن، وتصارع الشخصيات السياسية والعسكرية لحسابه الخاص. ان هذا الاردن الذي عاش محروما من الثروات الطبيعية او البترولية او حتى السياحية، لم تحرمه الحياة من الثروة البشرية، أعني من ثروة الانسان الاردني الطموح. ان معظم من عرفت من شباب الاردن كان يحلم بأن يصبح رئيسا للوزراء! وكل من عرفت من ضباط الاردن، كان يسعى لكي يحل محل غلوب باشا في رئاسة الجيش... وكان الله في عون الملك حسين...! فقد بقي الملك هو الشخص الوحيد الذي لا يسعى للزعامة، ولا يحلم بالترقية، ولا يلعن الحاضر الاسود بحساب المستقبل الابيض.

انا لا ابكي على توفيق ابو الهدى، ولا افتقده! لقد بكيت فقط على قصة الحب الطويلة التي ربطت قلب كريمته سعاد ابو الهدى، بقلب شاب اردني مثالي مثقف كان يعمل سكرتيرا لرئيس الحكومة ـ لوالد سعاد ـ وعندما طلب يدها من ابيها رفض الاب ان تتزوج ابنته من شاب عادي ـ ليس مليونيرا ـ وليس ابن عائلة ـ وليس وزيرا ـ وليس مؤيدا لزعامة الرئيس.. الجليل.. وانتهت القصة بعد ان تحطم القلبان.. الشابان؟

ولعل السماء قد ارادت ان تنتقم فكانت المقادير تتجمع وتترابط وتستعد لكي يدخل ابو الهدى حمام المنزل ولا يخرج منه الا جثة هامدة! لقد نظم مصطفى وهبي التل ـ شاعر الاردن الكبير ـ ووالد وصفي التل، قصيدة في يوم الاستقلال الاردني، كان مطلعها وهو يخاطب زعيم طائفة «النور» الرّحل المسمى «هبر»:

يا «هبر» لا بشرى ولا حوارة يطربها عزفك بالقيثارة يا «هبر» حسب الامة الحمارة حكومة براجة بصارة! يا «هبر» استقلالنا الكرتوني «فلان» فيها لولب الوزارة اما «هبر» فهو شيخ قبائل «النور» الرّحل، واما «فلان» فهو بعينه توفيق ابو الهدى، رئيس وزراء الاردن.. اياه! ورحم الله الشاعر مصطفى وهبي التل، ولا اخفي موقفي ـ كصحفي في مصر ـ انني شغلت نفسي بهذا السياسي الاردني الكبير، وان ابو الهدى، شغلني اكثر من غيره معظم مقالاتي وكتاباتي عن الاردن. والقصة تبدأ من اولها... منذ ان جاء ابو الهدى الى القدس لكي يعمل في معية الزعيم الفلسطيني السيد موسى العلمي ويصبح رئيسا عاما «للمشروع الانشائي العربي» الذي اسسه العلمي بأموال العراق وبمساندة خاصة من نوري السعيد ومن صالح جبر. يومذاك تعرفت على توفيق ابو الهدى الذي اختار جناحا كبيرا من اجنحة فندق الملك داوود في القدس ليكون مقرا لاقامته. وكان ذلك في عام 1946، «ثم وقعت النكبة واختارني الملك عبد الله مستشارا سياسيا وامينا عاما للقصر الاردني الهاشمي»، وراح الملك ـ في جلساته وفي اوقات الفراغ يحدثنا عن السيد توفيق ابو الهدى. وكان عبد الله يعجب بأبي الهدى... ويكرهه في آن واحد. وكان يحدثنا في اوقات الفراغ ونحن جلوس على «تراس» قصر «بسمان» عند ساعات العصر عن خدمات ابو الهدى «للبلد» في دفاعه عن مشروع «روتنبرغ» الكهربائي المعطى للصهيوني اليهودي «روتنبرغ» لتوليد الكهرباء، وكان موقع العمل في المشروع عند ملتقى نهر اليرموك ونهر الاردن ونهر «الشريعة» في الجهة الكائنة ضمن حدود شرق الاردن! وكانت مدة الامتياز لهذا اليهودي تنتهي عام 2000.

كما كان ابو الهدى يدافع بوصفه سكرتيرا للحكومة الاردنية عن امتياز املاح ومعادن «البحر الميت»، حيث كانت حصة الاردن من ثروات هذا البحر لا تزيد عن 2.5 في المائة بينما وصلت حصة اليهود والشركة الصهيونية صاحبة الامتياز الى 97.5 في المائة!! وفي عام 1929، وخلال انعقاد جلسة خاصة للمجلس التشريعي الاردني وقف توفيق ابو الهدى يدافع عن ذلك المشروع الصهيوني ضد صيحات ومعارضة معظم اعضاء المجلس التشريعي من امثال شمس الدين سامي، وعودة القسوس، ونجيب ابو الشعر.. وغيرهم.

وكان ابو الهدى يومذاك، سكرتيرا عاما للحكومة الاردنية، واصبح طلال بن عبد الله ملكا على الاردن بعد اغتيال والده. وفي جلسة للبرلمان الاردني يوم 25/11/52 وكان توفيق ابو الهدى قد اصبح رئيسا للوزراء، وقف النائب الاردني الفلسطيني الاصل عبد الله نعواس ـ وهو زميل وصديق لي ـ قائلا بالحرف الواحد: عندما تولى ابو الهدى الحكم قبل سنة ونصف السنة تضافر الناس جميعا، الشعب ونوابه، على تأييده... واصبح توفيق يشعر كأنه لهذا البلد سيد، بل صنم يُحرق البخور بين يديه، فراح يبتهج بأنه حامي العرش. وللعرش، لو يعلم أبو الهدى، شعب هو وحده بعد الله، القادر على حمايته...! وختم صديقي نعواس قائلا: أنا أحجب الثقة عن حكومة أبو الهدى! وقامت الضجة، وتدخل النائب حمد بن حجازي فشهر سيفه مهددا.

وصاح ابو الهدى ان الحكومة تأسف لما حدث...

وانسحب نواب المعارضة وعددهم 17 نائبا من الجلسة ثم عادوا الى الجلسة التالية يوم 25/11/1952 والتي طالب فيها النائب هزاع المجالي ـ باسم المعارضة ـ اقصاء أبو الهدى عن الحكم! وقد كنت أسأل نفسي أكثر من مرة:

وماذا عن اتفاقية رودس المشتركة؟ وماذا كان دور ابو الهدى في هذه الاتفاقية؟! وأجيب: كان للسيد توفيق أبو الهدى رأيه الخاص وموقفه الخاص واجتهاده الخاص، ايضا حيال اتفاقية رودس! انه يعترف بصوته وكلامه بأن اتفاقية رودس بين الاردن واليهود كانت تحوي «كارثة» لا يمكن نكرانها... وهي كارثة المثلث العربي في وسط فلسطين! ولكنه يضع المسؤولية في وقوع هذه الكارثة على الرجال العسكريين في الجيش الاردني، وعلى وزير الدفاع في حكومة سعيد المفتي، ويقول بالحرف الواحد: «ليس للحكومة علم باتفاقيات أو مفاوضات انبثقت عن اتفاقية «رودس». اما عن قصة التغييرات في الخرائط منذ كان ذلك موضوع البحث في مجلس النواب بتاريخ 21/11/1950 عندما القى وزير الدفاع في حكومة سعيد المفتي بيانا يفهم منه ان مندوبي هيئة الامم لم يروا بالامكان ان تضاف الى الاتفاقية خريطة بمقياس «1 على مائة ألف» ووجدوا من الأسهل اضافة خريطة بمقياس «1» على «250» ألف فقام موظفوهم بعمل خريطتين على هذا المقياس، حيث وقع تحريف فيها لم يفطن اليه اعضاء الوفد العسكري الاردني قبل التوقيع، وان هذا الخطأ الذي وقع عليه الرئيس «علي ابو نوار» العضو العسكري في لجنة الهدنة المشتركة والذي عزز توثيقه بتوقيع من رئيس أركان حرب الجيش الاردني، هو سر الكارثة!». ثم قال: «... وفي جلسة النواب يوم 50/11/21 ناقش النواب الشخص المسؤول عن الخطأ فأجابهم وزير الدفاع آنذاك بأن الخريطة المغلوطة قد وقع عليها ـ وعلى طرفها الايسر بالتحديد ـ السيد احمد صدقي الجندي في حين كانت التعليمات صريحة بأن لا يوقع أحد الاعضاء إلا مصحوبا بزميله، وكانت الحكومة على غير علم بهذه الخارطة لذلك استدعت أمام مجلس الوزراء الضابط المشار اليه واستجوبته ووجهت الى رئاسة الأركان الاستفسار الوارد في البيان، وان هناك قناعة بوجود اهمال وتقصير.. وكذلك عمدت الحكومة الى تأليف لجنة وزارية من وزراء العدل والخارجية والدفاع، وهذه اللجنة بقيت على اتصال بجميع المراجع التي تساعد على الوصول الى الحقيقة وتحديد المسؤولية، واللجنة ماضية في اقامة اسباب التهمة على كل المتورطين بهذه القضية...!».

انتهى كلام ابو الهدى، ولم يصدقه أحد، ذلك ان الايام قد مرت، والاتفاقية المشؤومة قد عاشت، واللجنة الوزارية ـ المزعومة ـ لم تفعل شيئا، والمسؤولية ضاعت وأسباب التهمة تلاشت... وضاعت معها أغلى وأخصب القرى والمدن في قلب فلسطين في المثلث العربي! لقد أعلن هاشم الجيوسي، أحد وزراء حكومة أبو الهدى، أمام البرلمان وبالفم المليان:

1 ـ ان ابو الهدى بالذات هو الذي وافق على الهدنتين الأولى والثانية مع اسرائيل! 2 ـ وأن ابو الهدى بالذات هو الذي اختار، بل هو الذي عيّن، وفد المفاوضة في مفاوضات رودس بدون ان يكون في اعضائه أي مستشار من أهل فلسطين الذين يعرفون اسماء القرى والمدن والاوضاع الجغرافية في الداخل.

3 ـ وان ابو الهدى بالذات هو الذي وافق على مفاوضة اليهود حول الجبهتين الاردنية والعراقية بلا رقيب ولا حسيب!!! 4 ـ وان ابو الهدى بالذات هو الذي أقر اتفاقية رودس المشؤومة مع خارطة (واحد/على 250 ألف)، وهي التي أخذت جميع الاراضي التابعة لمشروع روتنبرغ الصهيوني من العرب! 5 ـ وان ابو الهدى ـ بالذات ـ هو الذي وافق على توقيع خارطة (واحد على مائة ألف)! وقد أخذ اليهود بموجبها البقية الباقية من أرض المثلث لم تشملها الخارطة المشار اليها في البند الخامس...! 6 ـ وفي عهد توفيق ابو الهدى بالذات برزت للوجود خرائط تحمل تاريخ /6/2249. والتي اشار اليها دولته وهي من مقياس (واحد على 250 ألف) والتي تطبق، الآن وقد نقل اليها اليهود ما هو في مصلحتهم من الخارطة (واحد على 250 ألف) وهي اراضي مشروع روتنبرغ كما نقلوا اليها البقية الباقية من أراضي المثلث من الخارطة (واحد على مائة ألف) مع تعديلات أخرى لصالح اليهود! وبهذا تم لليهود ابطال الخارطتين استنادا الى ان اي اتفاق يتم بين الطرفين يلغي ما قبله:

ويكمل الوزير الاردني كلامه قائلا:

«وغريب ان تقع كل هذه الامور الخطيرة في عهد دولة توفيق ابو الهدى وان يحاول في البيان الحكومي الذي القاه، القاء المسؤولية على غيره! إن هذا القول في حد ذاته يعد اعترافا صريحا بان السيد ابو الهدى كان يعلم بكل ما كان يجري وكان يرضى به ويسكت عنه، وان غياب دولته في بيروت لمدة اسبوع لا ينفي عنه المسؤولية التي اراد ان يلقيها على غيره، حيث ان ابو الهدى كان يحاط علما بما كان يجري اثناء وجوده في لبنان ويوافق عليه».

وانبرى توفيق ابو الهدى للرد على كلام الوزير، وقال: إن كلام الوزير السيد هاشم الجيوسي غير صحيح! ورد الجيوسي بعنف: انا استطيع ان اثبت ذلك بالتاريخ... والتفصيل والوثائق...! ورد ابو الهدى قائلا للوزير الجيوسي: التاريخ ليس في رأسك... أساسا ليس لك الحق بالقاء خطابك... ولا حتى بالكلام...! وأجاب هاشم الجيوسي على ابو الهدي بكل تحد: ليس لك الحق في مقاطعتي! لقد كان باستطاعتك ان تجنب الامة شرور هذه النتيجة المذلة لما لك من دالة لدى «الأوساط» اياها والتي اشرت اليها في الجلسة السابقة ردا على احد النواب! بل كان باستطاعتك يا دولة الرئيس ان تستقيل من الحكم عند اطلاعك على النتيجة المذكورة! انني لم اسكت بالأمس عن تلك الجريمة النكراء ولم اسكت عليها اليوم وأنا وزير ولن اسكت عليها ما دمت حيا! وأطلب من المجلس تشكيل لجنة للتحقيق...!! وصاح ابو الهدى في وجه الوزير هاشم الجيوسي: كل الناس يستطيعون ان يتكلموا إلا انت ايها السيد لأن الحقائق التي أدليت بها في الجلسة السرية اثبتت انني لم أكن المسؤول عن اخطاء اتفاقية رودس!!! وتدخل النائب الفلسطيني الاصل «أنور الخطيب» مطالبا بقفل النقاش قائلا بالحرف الواحد: ان الناس قد استفادت من كشف الاخطاء ولكي لا تتكرر!! ماذا؟ كيف تتكرر؟ متى تتكرر؟ أين تتكرر؟

واستقالت الوزارة وجاء الدكتور فوزي الملقي رئيس الحكومة الجديدة. وفي 6/8/53 عقد البرلمان الاردني ولأول مرة جلسته في مدينة القدس! وحضر الجلسة ـ لألف سبب وسبب ـ الملك حسين الذي جاء من عمان خصيصا لهذا الغرض فتسابق للترحيب به عدد كبير من النواب والوزراء، وقال السيد عبد الحليم النمر، رئيس المجلس، ان حضور الملك يعني الاخلاص الاكبر للبلد! وقال هزاع المجالي مقاطعا «نحن نود ان نؤكد لأهل القدس اننا نحافظ على كل شبر من هذه المدينة المقدسة مهما كلف «الثمن». وقرر المجلس في النهاية اعلانا يرفض الاقرار بالأمر الواقع، اي يرفض تقسيم القدس، والاقرار بأن قضية القدس قضية سياسية قائمة بذاتها إذ ان قضية القدس جزء من قضية فلسطين ويجب حلها على هذا الاساس!!!».

ولكن...؟! في أول شهر يونيو من عام 1954 استقال فوزي الملقي وعاد توفيق ابو الهدى رئيسا للوزارة التي كان من بين اعضائها هاشم الجيوسي ـ وزيرا للداخلية. يعني عاد السيد هاشم الجيوسي في وزارة يرأسها ابو الهدى الذي اشتبك منذ ايام مع الجيوسي بالذات في اتهامات قاسية حول اتفاقية رودس المشؤومة. واكتملت التمثيلية وصدرت الارادة الملكية بحل مجلس البرلمان في نفس الشهر بسبب انعدام التعاون بين المجلس والحكومة...؟! عاد توفيق ابو الهدى ـ نفس توفيق ابو الهدى اياه ـ رئيسا للوزراء! وفي نوفمبر من عام 1954 تقدم ابو الهدى ببيان الحكومة الجديدة امام المجلس واقترح النواب تعديل المعاهدة مع بريطانيا! ورد عليهم ابو الهدى قائلا: «ليس من المعقول ولا من المعتاد ان توضع النقاط سلفا أمام الرأي العام أو امام هيئة من الهيئات...!!». وبعد شهرين اثنين فقط، استقالت حكومة ابو الهدى وجاءت حكومة جديدة برئاسة سعيد المفتي ومعالي هزاع المجالي وزيرا للداخلية، والذي قال للنواب ان ليس هناك أي جديد حول تعديل المعاهدة وأن البحث صار حول موضوع «المياه» مع الخبير الدولي المستر جونستون.

ولم ينته عام 1956 حتى جرت انتخابات برلمانية جديدة برئاسة ابراهيم هاشم.... وتبعتها وزارة جديدة برئاسة سليمان النابلسي، وراح سليمان النابلسي ـ بما عهد عليه من جنوح الى التطرف الوطني وركوب الموجات القومية المختلفة ـ يرسل برقيات التأييد الى عبد الناصر من جهة مع برقيات التهديد والوعيد الى نوري السعيد في بغداد مطالباً بقطع العلاقات مع بريطانيا مع الغاء المعاهدة مع الانجليز، وتكرار التأييد المطلق للملك حسين على طرد «غلوب باشا» من رئاسة الجيش... وطلب تكرارا من ملك العراق اقصاء حكومة نوري السعيد عن الحكم في بغداد كذلك...! نسخة جديدة من معارك ضد طواحين الهواء! واستمر هذا المجلس يحارب طواحين الهواء، ويلعب دور «دون كيشوت»، فيبرق إلى عبد الناصر دفاعا عن مستقبل غزة ثم يلتفت الى المعاهدة الاردنية مع الانجليز تمهيدا لالغائها! وأخيرا وفي العاشر من مارس من عام 1957 صدرت الادارة الملكية الاردنية تعلن انتهاء معاهدة التحالف المعقودة بين الاردن وبريطانيا...! وألقى النائب الفلسطيني الشاعر كمال ناصر على النواب في جلسة البرلمان قصيدة خاصة من نظمه كان مطلعها:

بلادي تململ حلم الجهاد على دربنا فانتشى وانتصر وبقي الاصرار مع الاستمرار على ممارسة سياسة محاربة طواحين الهواء، وصياغة البرقيات، وركوب موجات التطرف الوطني، حيث شهد المجلس النيابي الاردني المذكور الكثير من التطورات العنيفة داخل البرلمان. وفي العواصم العربية شهدنا العدوان الثلاثي على مصر، وشهدنا معه سلسلة من الحوارات المتعلقة بسياسة الاردن الداخلية في حل الاحزاب السياسية، واقالة حكومة سليمان النابلسي وطرد علي ابو نوار، وهروب بعض رجال الحكومة الاردنية الى سوريا، ومجيء ابراهيم هاشم الى الحكم، وبعدها حكومة سمير الرفاعي، وبعدها حكومة هزاع المجالي، كي يلقى مصيره المؤلم في انفجار دار الرئاسة الاردنية في قلب العاصمة.

ويبقى السؤال الكبير وسط كل ذلك: أين كان توفيق ابو الهدى؟ وماذا جرى لتوفيق ابو الهدى؟... وماذا فعل توفيق ابو الهدى؟ جواب: لقد دخل الرجل المحطم الى حمام منزله... وشنق نفسه! هكذا؟ أجل هكذا...!! عند منتصف الليل وبكل هدوء، شد طرف الحبل الملفوف حول عنقه، ولفظ انفاسه... إن قصته التي تشبه افلام السينما، ما زالت بحاجة الى من يكتبها ويخرجها ويهديها الى الجيل العربي الصاعد لكي يعرف الناس كيف ومتى ضاع المثلث العربي في قلب فلسطين، وكيف ولد وعاش مشروع روتنبرغ، وكيف وقع مشروع أملاح البحر الميت حلالا في يد اليهود!!! ذلك ان البكاء على فلسطين لم يعد حلالا إلا بعد ان نعرف شيئا عن تفاصيل المواقف التي احترفها الكثيرون من رجالات العرب، خاصة هذه الشخصية التي جاء صاحبها من عكا وصفد قبل نصف قرن واصبح رئيسا للوزراء في الأردن ...لا غفر الله لهم.

* يتبع

* حقوق النشر خاصة بـ«الشرق الأوسط»