واشنطن لا تضغط على إسرائيل لأنها لا تشعر أن ثمنا مرتفعا ستدفعه في المنطقة

TT

في منتصف شهر اغسطس (آب) الماضي، نشرت صحيفة «الهيرالد تريبيون» في صفحة الرأي مقالين يدوران تقريبا حول فكرة واحدة وان كان المفهومان مختلفين. الاول كتبه يوري درومي الذي يدعو الى الفصل بين الاسرائيليين والفلسطينيين حتى «تنمو» دولتاهما، والثاني كتبه غراهام فولر ويقول فيه ان بناء جدار بين الطرفين هو الخيار الوحيد المتبقي. وفولر، الذي عمل في مجلس الامن الوطني التابع لجهاز المخابرات المركزية الاميركية، ركز اهتمامه منذ تركه المنصب لمتابعة شؤون الشرق الاوسط وكذلك الارهاب في العالم. اللافت في مقال فولر كان قوله انه طالما بقي الاحتلال الاسرائيلي قائما، فإن الفلسطينيين سيستمرون في اللجوء الى المقاومة المسلحة. في اتصال معه، سألته عما اذا كان الفصل «الجسدي» الكامل بين الفلسطينيين والاسرائيليين ممكنا، فقال انه ليس متأكداً من ذلك، واعترف انه كتب مقاله ذلك لاحساسه بخيبة الامل ولإحداث صدمة ما، لاعتقاده ان الحلول البسيطة التي تقدمها واشنطن واطراف اخرى غير كافية لحل المشكلة، وليشير الى ان الوضع تدهور بشدة ويحتاج الى طروحات جذرية لايجاد نهاية للعنف. وأسف فولر لان عددا من الناس يستعمل كلمة الفصل بطرق مختلفة، في حين انه عندما ذكر كلمة الفصل اقترح بناء «جدار برلين» آخر، فوقع كلمة الجدار دراماتيكي، انما اضاف ان الفصل الذي اقترحه يعني اعطاء الفلسطينيين دولة ونقل كل المستوطنات التي لا تشكل جزءا من اسرائيل، وتقسيم القدس، «هذا اقل المطلوب، لكنني اعرف ان الاتفاق حول الحدود، وما اذا كان الفلسطينيون سيحصلون على اي جزء من القدس وما مساحته، اعرف ان هذه اسئلة صعبة جدا. فكرتي هدفها ان النظام القديم انتهى والوضع الحالي غير محمول، ويؤسفني ان اغلبية الاسرائيليين الذين يتكلمون عن الفصل لديهم رؤية قاسية وصارمة وعنيفة، فهم يرفضون التخلي عن اي جزء من القدس، وقد يحاولون الابقاء على بعض المستوطنات، وربما يودون الدخول والقضاء على كل السلطة الفلسطينية قبل ان يؤسسوا نوعا من الفصل الجسدي».

ولكن كيف يمكن اقناع رئيس الوزراء ارييل شارون بالحل والانسحاب على الاقل؟ يقول فولر ان رسالته الى شارون عبر فكرة بناء الجدار مفادها: «انك لن تستطيع ابدا ان تتغلب عليهم، فالقتال سوف يستمر واليهود سوف يموتون يوميا وبانتظام ولا وجود لحل طويل الامد، الا اذا انفصلت واعطيت الفلسطينيين المتطلبات الاساسية، ولا اتوقع ان اقنعه لانه يعتقد انه قادر على تحطيم المعنويات الفلسطينية».

ولكن وزير الدفاع الاسرائيلي بنيامين بن اليعازر يرفض هذه الفكرة بسبب، كما قال، وجود 200 الف مستوطن في 145 مستوطنة، ويرفض تجميعهم في منطقة واحدة وتفكيك المستوطنات، ويجيب فولر: «هذا مؤكد، لانهم ما زالوا متمسكين بالفكرة الصهيونية الراديكالية وهي ان كل الضفة الغربية تعود لهم وان المستوطنات ما هي الا بداية لتلك الحركة، ثم ان المستوطنات بنظرهم هي آلية للسيطرة، لذلك فإن رسالتي لشارون عبر ذلك المقال كانت : انس تلك الفكرة، لا يمكنك الابقاء على المستوطنات، والثمن للابقاء على مثل هذا الوضع هو: اسرائيليون قتلى وحياة لا تحتمل لأن العائلات لن تستطيع تناول البيتزا مع اطفالها».

ويشير فولر الى مشكلة لم يأت على ذكرها في المقال وهي قضية الفلسطينيين داخل اسرائيل، وهل سيكونون خارج الجدار ام داخله، «لا املك الاجوبة الحقيقية، بل اكتفيت بالاشارة الى الاتجاهات، فاذا استثنينا عرب اسرائيل، عندها بالطبع تصغر اسرائيل واذا ظلوا حيث هم، فكمن يحتفظ بقنبلة موقوتة، الا اذا قامت فعلا دولة فلسطينية منفصلة، عندها يصبح مقبولا بقاء عرب اسرائيل داخل اسرائيل (..) نعرف ان سياسة شارون لن تنجح، كذلك الامر بالنسبة الى بنيامين نتنياهو، والرؤية «الجميلة» لليسار الاسرائيلي، التي احبها، والقائلة بالعيش معا، بعد اعطاء الفلسطينيين دولتهم مع المشاركة في الاقتصاد والاحترام المتبادل، هذه فكرة رائعة، واسوأ ما ادت اليه الانتفاضة انها انهت اليسار الاسرائيلي تقريبا».

وهل انتهى اليسار الاسرائيلي لانه لم يلتزم بما وقعه من اتفاقيات مع الجانب الفلسطيني؟ يقول فولر: «اعتقد ان اليسار يشعر ان ما عرضه باراك (ايهود) ـ وعلينا الاعتراف، كان افضل اقتراح عُرض على الفلسطينيين وإنْ لم يكن كافيا تماما ـ شعر بخيبة أمل عندما رُفض ذلك الاقتراح وبعد ذلك بدأ العنف، لقد اعتقد اليسار انه على وشك الوصول ولكن.. ثم ان اليمين الاسرائيلي انقلب على اليسار بعنف، ففقد كل المصداقية وهذا اهم من خيبة امله.. واظن ان بعض اليسار ما زال يأمل بأن الامور ستنجح في النهاية.

«المناخ في اسرائيل الان اسوأ مما كان عليه قبل عشرين سنة، من هنا اتحدث عن الانفصال، اي، اعطوا الفلسطينيين دولتهم واغلقوا الباب». ويحذر فولر من ان اعادة الاحتلال الكامل للضفة الغربية مستحيلة، شارون يعرف ذلك، سيؤدي الى حرب اهلية حقيقية بحيث ان الوضع الحالي يصبح بالمقابل رائعا».

وأسأل فولر: في مقالك ذكرت ان واشنطن غير قادرة على فعل شيء، فهل هذا صحيح؟ ام ان الادارة الجديدة لا تنوي التدخل طالما ان خطر حرب اقليمية غير قائم؟ ويجيب «اردت انتقاد واشنطن بقولي انها تبدو غير قادرة، واعتقد ان الادارة غير مستعدة، الان، ان تضغط بقوة على اسرائيل وتفرض عليها الانسحاب وسحب المستوطنات، وذلك لاسباب داخلية، والصحيح ايضا، ان ثمن الصراع الدائر حاليا ليس مرتفعا، ولا اعرف الثمن الذي ستدفعه واشنطن في الشرق الاوسط، وهل سيكون مرتفعا، هذا يعود الى العالمين العربي والاسلامي اللذين حتى الان لم يفرضا اي ثمن على واشنطن.. ويمكن للعرب ان يؤثروا على موقف واشنطن ويذكروها كم دعموا الغرب عبر اسعار النفط وانهم غير قادرين على مواصلة هذا الامر اذا ظلت المنطقة على هذا الوضع، حتى مصر والاردن يمكنهما ايصال مثل هذه الرسائل الى واشنطن، ثم هل يعتقد الخليجيون ان واشنطن قد تتخلى عن الدفاع عن الخليج، اذا ما واجهوها واصروا عليها بأن تضغط على شارون حقيقة؟

ثم يقول:

«اذا حدث تغيير كبير في واشنطن، وشعرت ان الثمن الذي ستدفعه لسياستها الحالية سيكون مرتفعا جدا في المنطقة، عندها ستغير سياستها. لكن الثمن الان لا يُذكر والحرب مستبعدة، الا بالنسبة الى صدام، ولا اعتقد انه سيُقدم على ذلك.. لأن إقدامه سيكون منتهى... الجنون.

ويواصل فولر شرحه لموقف واشنطن الحالي: «هناك زاويتان يمكن النظر من خلالهما الى المشكلة. يمكن القول ان المشكلة هي ارهاب وعنف، وعندما يتوقفان نبدأ المفاوضات ونحقق بعض التقدم. هذا خط شارون، وواشنطن وافقت على هذا الخط لاسباب كثيرة، فالمسؤولون في الادارة لا يريدون مواجهة شارون، يمكنهم ذلك، لكن الامر سيكون صعبا جدا، ثم انهم يعتقدون ان الاولوية هي لمواجهة الارهاب في العالم كله..

الزاوية الثانية هي في القول ان اساس المشكلة ببساطة هو الاحتلال. وللاسف نجح الاسرائيليون في اقناع واشنطن بأن المشكلة الاساسية هي الارهاب. وطالما ظل الناس يعتبرون ان الارهاب هو المشكلة الاولى، التي يجب التعامل معها، فلن يحدث اي شيء قط.. ولن يتم الانسحاب».

ثم يواصل «اعتقد ان الوضع خطير، حتى من دون الحرب، لقد اصبحت الافكار الجميلة حول التعايش بعيدة، ابتعدت لعشرين سنة مقبلة، ولهذا نعود الى الجدار، واعتقد انه الخيار الافضل بعد زوال فكرة التعايش والاقتصاد المشترك.. وسياسة شارون لن تؤدي الى شيء، اما الشعب الاسرائيلي فانه يظن ان شارون يملك المعادلة السحرية، لكن عندما يلمس فشل هذه السياسة قد يعود الى فكرة باراك».

وهل اخطأ عرفات برفض تلك المقترحات؟ «لن اجيب عن الفلسطينيين، اعتقد ان باراك اقترب جدا من الحل الجدي، انما لم يكن كافيا، ربما اعطى 85 في المائة.. وابقى على عدد من المستوطنات، ثم ان الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون ضغط طالبا الجواب الحاسم، نعم او لا. ولو استعملنا اقتراحات باراك كأساس لمفاوضات تطول سنة اخرى، لنجحت.. وجاء الحل».

وهل يعتقد فولر ان عرفات هو المشكلة الآن، ليس حسب الطريقة التي يطرحها المسؤولون الاسرائيليون بالطبع؟ ويجيب «اعتقد ان عرفات يتصرف الآن كما كان سيتصرف اي زعيم فلسطيني في مثل هذا الوضع، انا اتفق مع عدد من الانتقادات الموجهة لعرفات، فانه لا يملك رؤية واضحة، لكنه يعمل من اجل الابقاء على فكرة الدولة الفلسطينية حية، لم يكن بارعا على المستوى الدولي.. ثم، وفي ظل هذه الضغوط بالطبع، فإنه سيقبل بحركة «حماس»، كما الحال في اسرائيل حيث يحتاج شارون الى عناصر من اليمين المتطرف في حكومته، لان هناك حاجة لمثل هؤلاء خلال الازمات، وعرفات في حاجة الى «حماس» و«الجهاد الاسلامي». ان عرفات يمكنه ان يفرض وقف اطلاق النار على «حماس» او «الجهاد»، اذا كان ثمن ذلك ـ من الجانب الاسرائيلي ـ مرتفعا جدا، اي انسحاب كبير من كل المناطق وتحسن الوضع، ثم تفكيك بعض المستوطنات الصغيرة والبعيدة.. عندها يمكنه ان يعلن بداية توجه جديد، ولا اعني هنا انتهاء الانتفاضة. لكن هذا لن يحدث الآن، حتى لو جرى لقاء بينه وبين شيمون بيريز وزير الخارجية الاسرائيلي».

من جهة اخرى يقول فولر، ان واشنطن لا تمانع من ان تقوم اوروبا بدور ما، لكن «اوروبا لا تريد، فاذا كانت واشنطن تجد صعوبة في الضغط على شارون فماذا بالنسبة الى اوروبا»؟

ويضيف فولر: «لا اعتقد ان واشنطن حتى مع الادارة الجديدة تحب سياسة شارون، واشنطن تحب باراك، تحب حزب العمل الاسرائيلي، لانهم منطقيون وواقعيون، ولكن تعرف واشنطن انها اذا سعت لتغيير شارون الآن فان الثمن الداخلي سيكون مرتفعا، لا ننسى ان شعبية شارون بنسبة 70 في المائة، وواشنطن تنتظر ان يكتشف الشعب الاسرائيلي ان سياسته غير ناجحة وعرّضت اسرائيل لعزلة دولية، عندها ستتدخل، وأظن ان هذا تفكير واشنطن الان..» ويقول: «ان الرئيس جورج دبليو بوش لا يريد معارضة قوة اللوبي الاسرائيلي، ولا اعني هنا اليهود في اميركا، فهؤلاء لا يدعمون بالضرورة اللوبي الاسرائيلي، فهناك الكثير من اليهود الاميركيين اليساريين غير المرتاحين لشارون والذين يكرهون نتنياهو لاعتقادهم انه اضر بالعلاقات الاميركية مع اليهود.. وبوش لا يريد ان يدفع ثمن ابعاد رئيس وزراء يتمتع بشعبية داخل اسرائيل، لكن يجب ان تشير واشنطن علناً الى ان الاحتلال هو اساس المشكلة».

في النهاية يقول فولر: «ان الفلسطينيين غير مستعدين للحديث مع الاسرائيليين في ظل هذه الاوضاع، كما ان الاسرائيليين غير راغبين في العودة الى اقتراحات باراك.. وليس عرفات او شارون هما اللذان يجبران الناس على القيام بما لا يرغبون به.. هذه هي الحقيقة المرة.