ردا على «المطبِّلين».. هذا هو تاريخ «إيران الثورة» مع العرب!

TT

كالعادة فما إن تعثرت المفاوضات غير المباشرة بعد التصعيد الاستفزازي الإسرائيلي وإعلان بنيامين نتنياهو عن نية حكومته بناء ألف وستمائة وحدة استيطانية جديدة في القدس الشرقية، حتى وجدها «مُطبلِّو» ما يسمى «فسطاط الممانعة والمقاومة» فرصة لرفع وتيرة الصخب والصراخ والدعوة لعقد لواء القيادة لإيران والانتقال بالرهان إلى محمود أحمدي نجاد على أنه صلاح الدين الأيوبي الجديد الذي سيأتي من الشرق على رأس جيش لَجِب لتحرير الأقصى وتخليص فلسطين وإلقاء «هذه الدولة اللقيطة» في البحر.

كانت هذه الطبول نفسها قد قُرعت أكثر من مرة وبخاصة خلال حرب عام 2006 على لبنان حيث استهدف الإسرائيليون مناطق دويلة حزب الله في الجنوب وفي ضاحية بيروت الجنوبية وخلال الحرب المدمرة على غزة التي كانت مذبحة مرعبة ضد أبناء الشعب الفلسطيني ويومها، في المرة الأولى وفي المرة الثانية، كان رد إيران في هيئة أوامر صارمة من الولي الفقيه علي خامنئي بمنع تطوع أي إيراني للالتحاق بالجهاد من أجل فلسطين ضد الدولة التي يصفها محمود أحمدي نجاد بأنها مصطنعة وزائفة وأن نهايتها غدت قريبة ومحتمة.

والمؤكد أن هؤلاء القارعين على الطبول الإيرانية، الذين ما إن يطرأ أي جديد سلبي على عملية السلام حتى يبادروا للمطالبة بأن يعيد العرب النظر بمواقفهم وتحالفاتهم وأن يتجهوا نحو إيران لعقد تحالف «استراتيجي» معها وتسليم الولي الفقيه في طهران بيرق القيادة وفتح الأبواب على مصاريعها لحماس وحزب الله والحوثيين ولباقي التنظيمات التي تحولت إلى مجرد ديكور إيراني في هذه المنطقة.

وحقيقة، وهذا بات مؤكدا ومعروفا ولا يحتاج لا إلى براهين ولا إلى أدلة، أن هذه الدعوات التي تكررت أكثر من مرة في السنوات الأخيرة التي عنوانها تحرير فلسطين وتخليص القدس والأقصى الشريف وجوهرها التمهيد والترويج لمخطط إيران المعلن بالهيمنة على المنطقة واستباحة العالم العربي على غرار ما كان عليه الوضع قبل ظهور الإسلام العظيم أو على الأقل تقاسم النفوذ في الشرق الأوسط مع الولايات المتحدة وأيضا مع الدولة الإسرائيلية التي يعتبرها الرئيس محمود أحمدي نجاد زائلة ولا بد من القضاء عليها بعد عودة المهدي المنتظر «الذي باتت كل معطيات عودته متوفرة والذي سيعود قريبا ليملأ الأرض عدلا بعد أن امتلأت جورا».

لا يعرف هؤلاء، أو أنهم يعرفون ولكنهم يتجاهلون الحقائق ولا يريدون حتى تذكّر ما يعرفونه، أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عندما ذهب إلى طهران، بعد عودة الإمام الخميني من فرنسا لاستكمال انتصار ثورته وإقامة الدولة التي حلم بها مبكرا عندما كان مدرسا في حوزة «قُم» قبل نفيه أولا إلى تركيا ثم إلى العراق.. ثم إلى آخر منفى له في ضاحية العاصمة الفرنسية، قد أطلق ذلك الشعار المدوي الذي قال فيه: «لقد أصبح عمق الثورة الفلسطينية يمتد الآن إلى أصفهان».

فما الذي حدث بعد ذلك؟ الذي حدث أن نفوذ الدولة الخمينية في لبنان قد حاصر المخيمات الفلسطينية في بيروت وفي الجنوب وفي الشمال وقد قضى على «عمق» الثورة الفلسطينية في العاصمة اللبنانية وأجبر فلسطينيي مخيماتها تحت الحصار الظالم الشديد على إباحة أكل الموتى والقطط والفئران وكل هذا أمام سمع وبصر وتأييد وتشجيع الذين يعتبرون أنفسهم الرقم الأساسي في معادلة «فسطاط الممانعة والمقاومة» الذي يطالب المطبلون بعقد لواء القيادة له وإخلاء القادة العرب مواقعهم ليملأها محمود أحمدي نجاد الذي يعتبره هؤلاء فتى الأمة الإسلامية الأغر الذي سينقذ العباد ويحرر البلاد ويقتلع إسرائيل من جذورها ويريح العالم من شرور استكبار الولايات المتحدة الأميركية.

ثم ما الذي حدث بعد ذلك أيضا؟!

الذي حدث أن إيران أوجدت لها رؤوس جسورٍ في لبنان من خلال حزب الله وسلاحه ودويلته في الجنوب وفي ضاحية بيروت الجنوبية وفي فلسطين من خلال الانقلاب الدموي الذي نفذته حماس، وأقامت هناك بعد القضاء على السلطة الوطنية، بتلك الصورة الدموية، دولة غزة التي غدت مبررا لإسرائيل للتملص من عملية السلام ومفاوضاتها وفي اليمن من خلال الظاهرة «الحوثية» التي بقيت تشتبك مع نظام الرئيس علي عبد الله صالح في ست حروب آخرها الحرب التي توقفت قبل أسابيع قليلة بعد مصالحة يرى كثيرون أنها مجرد هدنة ستنهار قريبا لا محالة بمجرد أن يرى الإيرانيون ضرورة العودة للتصعيد في إطار توجهاتهم ومخططاتهم المعروفة تجاه هذه المنطقة.

ثم وأن الذي تقصَّد هؤلاء المزمرون والمطبلون والمروجون لضرورة عقد لواء القيادة لإيران، بعد انهيار العملية السلمية وإصرار إسرائيل على مواصلة الاستيطان وعلى أن القدس هي عاصمتها الأبدية، تجنب ذكره وتذكره هو أن هذه «الدولة الشقيقة» كانت قد تعاونت مع الولايات المتحدة التي تسميها «الشيطان الأكبر» لاحتلال العراق وأنها بقيت كل هذه الأعوام منذ عام 2003 وحتى الآن تعمل على تفتيت هذا البلد العربي وإقحامه إقحاما في صراعات طائفية لتغيير هويته العربية وليكون مجالا حيويا لـ«صفوية» جديدة تريد طهران لها أن تمد نفوذها إلى كل الدول المجاورة وبخاصة الدول الخليجية.

إن هذا هو واقع تجربة هذه المنطقة مع «إيران الثورة» خلال الثلاثين سنة الماضية ثم إن ما يتجنب ذكره وتذكرّه المطبلون والمزمرون هو أن جمهورية الولي الفقيه، التي يطالبون بعقد لواء القيادة لها لتُحرِّر فلسطين وترمي اليهود في البحر، غارقة في الأزمات حتى عمامتها فهناك هذه الثورة الشعبية المتعاظمة رغم القمع الشديد الذي تتعرض له، وهناك المأزق الاقتصادي المتفاقم الذي أدى انهيار أسعار النفط إلى المزيد من تفاقمه واستفحاله، وهناك أيضا تململ الاثنيات القومية المضطهدة ومن بينها الأكراد والعرب والآذاريون.. والبلوش وغيرهم. إن إيران التي يطالب المطبلون والمزمرون بعقد لواء القيادة لها في هذه المنطقة تمر بأوضاع لا تحسد عليها ثم وهي تحت ضغط هذه الأوضاع المستفحلة حقا منهمكة في لقاءات سرية مع مسؤولين أميركيين حيث جرى هذا في سويسرا ويجري الآن في أكثر من عاصمة أوروبية وذلك في الوقت الذي يلجأ فيه محمود أحمدي نجاد إلى كل هذا الصخب ويلجأ فيه مرشد الثورة إلى رفض العرض الذي تقدم به باراك أوباما قبل أيام بينما يرسل مستشاريه للقاء الأميركيين بكل حرارة و«أخوية».

لقد كانت التجربة العربية مع «إيران الثورة» ولا تزال مُرَّة ومحبطة ولعل ما يجب أن يقال الآن، بينما يستغل البعض فرصة تعثر العملية السلمية للمطالبة بأن يسلم العرب أوراقهم وقراراتهم ورقابهم أيضا للولي الفقيه، هو أنه إذا كانت إيران جادة وصادقة في فتح صفحة تحالف جديد مع المجموعة العربية فإن عليها أن تبادر وبسرعة إلى دمج حزب الله وأسلحته في الدولة اللبنانية وفي الجيش اللبناني وإلى الإفراج عن الوحدة الوطنية الفلسطينية بإلزام حماس بتوقيع ورقة المصالحة المصرية وإلى رفع يدها عن العراق ووضع حد لتلاعبها بنسيجه الاجتماعي الداخلي ثم إلى وقف استهدافها لمصر والتخلي عن احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث والتخلي أيضا عن تدخلها في السودان وفي اليمن وفي بعض دول شمال أفريقيا المغاربية.

إن هذا هو المطلوب من إيران، فإن هي نفذته كبادرة حسن نوايا فإنه يصبح تحصيل حاصل أن يمد العرب كلهم أيديهم إليها كدولة شقيقة يربطهم بها تاريخ مشترك ومصالح مشتركة، وبخاصة في هذه المرحلة التي هي مرحلة مصالح مشتركة، وكل هذا على أساس الاحترام المتبادل وعدم تدخل أي طرف في الشؤون الداخلية للطرف الآخر.