رحمة بالكرد

TT

أثار أحد السياسيين العراقيين زوبعة سياسية، ولا سيما لدى الكرد، إثر تصريحه بأحقيته في رئاسة العراق، معللا ذلك بأنه حصل على تفويض شعبي يؤيده بضرورة أن يحصل العرب على رئاسة الجمهورية، ومسوغا رغبته تلك بأنها تنسجم مع هوية العراق العربية، ولا ندري من أين حصل على هذا الاستفتاء والتفويض، وحتى الآن لا يعرف العراقيون أي قوائم فازت في الانتخابات.

عموما ما يترشح من دلالة عن هذا القول هو رغبة محمومة وشوفينية كارهة للكرد، وأفكار ما زالت غارقة في شعورها الأعلى والمتفوق والمتعالي الذي يسعى إلى اعتراف الآخر بتفوقه، يحيلنا إلى ثقافة التعالي، هذه الثقافة التي تجاوزها عصر التنوير، وحلت محلها ثقافة المساواة وحقوق الإنسان وصون كرامته.. وسيادة ثقافة الديمقراطية والليبرالية، وتم معالجة التنوع الإثني والعرقي عبر الديمقراطية التوافقية للحيلولة دون استبداد الأكثرية العرقية والطائفية.. وبعد التغيير في عام 2003 بدأ الخطاب السياسي في التحول عن ثقافة الاستبداد والسعي لخلق ثقافة جديدة تحترم التنوع والتعدد لتعالج مشكلة التنوع الإثني والعرقي في العراق تحاكي التجارب العالمية التي جعلت من الأقليات أرقاما صعبة تشترك في صناعة القرار السياسي من دون النظر إلى حجمها وعددها، كما هو الحاصل في سويسرا.

متى يعلم هؤلاء أن الحياة وحركة التاريخ لدى الآخرين في تغير مستمر، وتتطور نحو بناء مجتمعات أكثر إنسانية، وتسعى لتكريس قيم جديدة تحترم الآخر من دون النظر إلى شكله ولونه وعرقه ودينه وطائفته وثقافته، وهذا ما أكده الدستور العراقي، فضلا عن بنود أخرى تضمنها الدستور، جميعها تؤكد المساواة بين العراقيين. إذن ما جاء في هذه الدعوة يتقاطع مع مواد الدستور العراقي ومضامينه، وما يترشح منها من دلالة هو العودة لثقافة الهيمنة التي عانى منها الشعب الكردي الويلات، وباتت هذه الطروحات لا تنسجم مع المزاج العام وتطلعات المجتمع العراقي نحو الوحدة الوطنية والتوحد، ولو فرضنا جدلا أن هذه الدعوة ربما يعتقد البعض أنها جاءت على خلفية عدم أهلية الرئيس جلال الطالباني لهذا المنصب، أو لأنه كان ميالا للكرد، أو عنصريا، أو لم يكن يوحي بعراقيته، أو لم يكن على مسافة واحدة من الجميع، للإجابة على هذه التساؤلات، نعتقد أن الطالباني هو أكثر السياسيين الحاليين جدارة بهذا المنصب، فهو عراقي بامتياز، إذ كان منذ شبابه انخرط في الهم العراقي عبر انضمامه إلى اتحاد الطلبة العام الذي انعقد في ساحة السباع عام 1948، إذ كان أحد المساهمين في المؤتمر، كما كان تسلسله الأول في الهيئة الإدارية لأول نقابة للصحافيين العراقيين عام 1959 التي كان نقيبها محمد مهدي الجواهري، كما أسس اتحاد الشبيبة الديمقراطي، وعلاقته مع شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، إذ اشتهر بكونه أهم حفظة شعره، وتربطه به علاقة حميمية، حتى إنه مات ويحمل على رأسه غطاء أهداه له الطالباني.. وقد أهداه الجواهري قصيدة مطلعها:

شوقا «جلال» كشوق العين للوسن

كشوق ناء غريب الدار للوطن

وحسب شعري فخرا أن يحوز على

راو كمثلك ندب ملهم فطن

وعلى الصعيد العربي كان قد دعا ياسر عرفات في حصار بيروت من قبل الإسرائيليين إلى زيارة السليمانية المحررة، وعلاقته الوطيدة مع دول الخليج وجميع الدول العربية، وفي مؤتمر القمة العربي الذي عقد في السعودية استقبل استقبالا حارا من قادة المملكة العربية السعودية، وهذا الاستقبال يحيلنا إلى مقولة المغفور له عاهل السعودية الملك فيصل عام 1974 أن للأكراد حقوقا على العالم الإسلامي.. ومن طرائف هذا المؤتمر تعليق أحد الصحافيين بقوله: كان جلال الطالباني العربي الوحيد الذي حضر المؤتمر، في إشارة لنطقه مخارج الحروف وتحريكها بلغة عربية سليمة، وفي مؤتمر البرلمانات العربية الذي عقد في أربيل حدث لغط حين تداول المؤتمرون موضوع الجزر الثلاث في المؤتمر، مما أثار حفيظة الإخوة الإماراتيين، فتدارك الموقف بحنكته السياسية المعهودة وقال إننا مع الإجماع العربي، فهدأ الجميع. وفي المجال الدولي، تربطه علاقات وطيدة مع معظم رؤساء العالم، فهو معروف على الصعيد العالمي، ولا سيما نشاطه في الاشتراكية الدولية. فهل يُعقل أن يغير رجل بهذه المواصفات، ويحل بدلا منه عسكري ينظر للآخرين على وفق مفاهيم المافوق والمادون!

عموما، أثبتت التجارب طيلة مدة حكمه أنه كان على مسافة واحدة من الجميع، وكان له دور كبير في الحد من الصراعات والخصومات التي تحدث بين الفرقاء السياسيين، وأسهم بشكل فعال في توحيد البلاد، فحظي باحترام وحب جميع العراقيين، سواء من شحن وعبئ بالشوفينية. وأخيرا نقول إن عروبة العراق ووحدته تكمن في اتحاد جميع مكونات الشعب العراقي، وليس تصنيف أبنائه على درجات. وإذا كان الرافضون لأن يكون الرئيس كرديا فهم بذلك يعيدون العجلة إلى الوراء ويوسعون الهوة ما بين العرب والكرد، ويدفعون الكرد نحو مزيد من الهواجس والظنون.

* كاتبة وأكاديمية من إقليم كردستان العراق