أين يتجه العراق.. عندما يراد أن تعود الحرب بين الإسلاميين والعلمانيين؟

TT

لما تكد تنتهي الانتخابات التي جرت في السابع من مارس (آذار) 2010 حتى كانت الخلافات الطاحنة تطحن الجميع، فائزين وخاسرين، على اختلاف اتجاهاتهم وتوجهاتهم، وهي خلافات طاحنة لها أصولها وفروعها:

* أصولها في تأخير إقرار قانون الانتخابات وفي برنامج المفوضية المستقلة للانتخابات وطريقة عملها الغريبة وأقل ما توصف به أنها غريبة.

* فروعها في الفساد الذي شاب الانتخابات على مستويات تجاوزت كل خلل وقع في انتخابات 2005 وانتخابات مجالس المحافظات 2009.

ووسط ذلك كله فإن الخلافات الطاحنة بين الدولة والأحزاب والمجتمع العراقي وصلت حد التهديدات العلنية والسرية بين أطراف كانت لها مندوحة عن التهديد بأي شكل من الأشكال، ولعل الخاسر الأكبر من هذه الانتخابات مهما كانت نتيجتها ومعطياتها وتحالفاتها التالية هو الشعب العراقي، الذي طلب الماء ليروى فوجد السراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. لقد ضاعت أصوات لم تنتخب وكانت حريصة على الانتخاب، وضاعت كيانات لها قوتها وسط دوامات الدعاية التي سالت فيها ملايين الدولارات أنهارا. وضاعت مقدرات شباب أرادوا التغيير بعد أن حطمهم الخلل في عراقهم. وضاعت من جديد أطر الصورة وظهرها وبطنها في هذه الحرب القديمة الجديدة بين قوى تدرج نفسها باسم الإسلام وقوى قديمة جديدة تدرج نفسها في المحددات العلمانية الليبرالية الديمقراطية بكل أشكالها.

وفي واقع الحال فإن الأحزاب اللاعبة والكيانات اللاعبة أضاعت خيوط الفرز بين الخيط الأبيض والخيط الأسود من الإسلامية والعلمانية، فضاع معها الخيط الجامع للعراق إسلاميا وعلمانيا ومستقلا في آن واحد.

إن هزيمة الحركات الإسلامية بعد 2003، بين حركات دخلت الدولة ففشلت وحركات عارضت الدولة وقاومت ففشلت، شابهتها هزيمة للعلمانية المغرقة في مثاليتها وطوباويتها وأدلجتها المأخوذة من أجندات اليسار العلماني الفرنسي والمحافظين الجدد على استحياء من غير أن يقول أحد من هؤلاء جميعا: «لقد كنا جميعا مخطئين». وفي مرحلة ما بعد عصر حروب العراقيين التي سالت الدماء فيها أنهارا مسيل دجلة والفرات فإن عصر الحرب الكبرى بين الأسلمة والعلمنة في العراق لن يكون لها بعد، إذ لم يكن لها في يوم من الأيام من قبل.

إن الخريطة السياسية الاجتماعية للعراق الحالي لا تحتمل مثل هذا الصراع الذي يخادع بعضهم فيه بعضا، فيتزيا بالهوى من ليس أهله كما يقول الأعرابي، فترى العلماني يزور بيت الله الحرام، وترى الإسلامي ممسكا بمبادئ الثورة الفرنسية وطروحات الليبراليين الجدد يتجرعها ولا يكاد يسيغها العراقي منه ومعه، وإذا كانت الصورة الحالية من الانتخابات الحالية قد أفرزت معسكرين كبيرين يمثلان الأسلمة والعلمنة، بعد أن جرى ما جرى ووقع ما وقع، فإن العراقيين ليسوا بحاجة إلى صراعات جديدة تعيد الحرب عليهم جذعة بين من يعرفونهم ومن لا يعرفونهم.

إن ما يريده العراقيون حكومة:

رشيدة، ديمقراطية، وطنية، مستقلة، شرعية ودستورية تجمع العراق، كل العراق، بشيعته وسنته وعربه وأكراده وتركمانه ومسلميه وغير مسلميه تحت اسم العراق.

ولا يريد أحد من العراقيين مهما كان شكل الحكومة القادمة أن تعود فرق الموت وأمراء الفتنة والجثث خلف الجدران وملايين خلف الحدود ينتظرون ما بعد الانتخابات. لقد تعب الناس من إسلامييهم وعلمانييهم الذين أتعبوهم طوال عقود وسنين ومن قومييهم ومن ديمقراطييهم ومن كل من تاجر باسم مبدأ ليكون القائل أنا ربكم الأعلى.

ما يريده العراقيون هو العراق الذي أدلج، وسار الناس، وبقي على كثبان الرمل التي لا ترفع بناء بل هي جرف هار. ما يريده العراقيون هو عراقهم، وحده عراقهم. ومحل خلاف الإسلاميين والعلمانيين غير ها هنا. هنا محل بناء العراق، وحدة العراق، واتجاه العراق نحو مستقبل آخر.

لقد كان الناس يحسبون أن الديمقراطية ستكون، وفق دعاوى العلمانيين ووفق دعاوى الإسلاميين، ديمقراطية حقيقية وفق قاعدة حكم الشعب لنفسه بنفسه عن طريق هيئاته وممثليه في برلمان قوي يراقب حكومة فعالة تنفيذية وفق دستور جامع مانع.

لكن المفاجأة أن الديمقراطية التي هلهل وهلل لها الإسلاميون والعلمانيون أديرت من خلف أسوار السفارة الأميركية، ومن خلف حدود دول وحكومات هنالك في الشرق أو هنالك في الغرب.

وكان اللاعب الأميركي موجودا.

وكان اللاعب الإقليمي موجودا.

وكان اللاعب الدولي ظاهرا وخفيا موجودا.

على علن حينا وعلى استحياء حينا آخر.

وهكذا فإن الاحتلال الأميركي وإن سماه آخرون بمسميات أخرى أوجد ما بعد الحركات الإسلامية، وأوجد في الوقت نفسه ما بعد العلمانية. وكانت النتيجة انقساما حادا أعيد إحياؤه اليوم في وسط العراق وشماله وجنوبه. ولم تكن الانتخابات إلا صورة من صور انتخابات جمهوريات الموز: التزوير، شراء الأصوات، العبث، اللامنهجية، الدعاوى الكاذبة.

وما بين من دخل الانتخابات ومن لم يدخلها وجدنا أن قضية الصراع بين القوائم الإسلامية والقوائم العلمانية غطت حقيقة الخلل في البنية الاستراتيجية للديمقراطية العراقية.

خلل في الذات. خلل في الصفات على حد سواء في ذلك.

إن الخلل الواقع اليوم هو الابتعاد عن جوهر الوطنية العراقية. ورسالتنا قبل الانتخابات وبعدها كانت ولا تزال استمعوا للعراقيين ودعوا فلسفات لم تصنع شيئا، فلسفات تشبه الذين ما زالوا يعبدون المنجل والمطرقة في زمن كسر فيه المنجل وكسرت المطرقة وبقي لون الرأسمالية المعولمة يطغى فوق الألوان باسم العلمانية والليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان ونهايات ما بعد صراعات الحضارات.

العراق اليوم لا يريد من العمائم فلسفاتها، ولا يريد من العلمانيين فلسفاتهم، بل يريد اليوم وكل العراقيين يريدون وطنا حقيقيا يقف بين الوحدة والتوحد والحرية والتحرر والتقدم والبناء.

وكل صراع بين كل الجهات وبأوامر من المحتل الظاهر والمحتل الخفي إنما يحدث شرخا في جدار يريد أن ينقض، ولا نريد له لا سمح الله جل جلاله أن ينقض، وذلك بعض ما نذهب إليه لئلا نتفرق من جديد أيدي سبأ.

* رئيس البرلمان العراقي السابق