صراع القمم

TT

عرف الشاعر جورج جرداق كبار الفنانين عن قرب. وكانت له بينهم صداقات وملاحات، من محمد عبد الوهاب إلى أم كلثوم، ومن الأخوين الرحباني إلى وديع الصافي. وكنت لا أزال أسأل رأيه وذوقه في من عرف. ولست سوى هاوٍ وسوف أظل. ليس من قبيل التواضع بل بداعي الافتخار. ففي ظل هؤلاء العمالقة الذين صنعوا تاريخنا وتراثنا وإيقاعنا الموسيقي، لا يحق لكثيرين الوصول إلى مرتبة الهواة. بسبب جهل عندي لم أكن أعرف جيدا مدى موقع رياض السنباطي. لكن جورج جرداق قال لي ذات يوم: «يجب أن تعود، أنت وذوقك الفني، إلى البداية. من لا يقدر السنباطي ليس هاويا فحسب، بل جاهل أيضا». ومنذ ذلك الوقت أصبحت أقرأ عن السنباطي بطريقة مختلفة وأخذت أصغي إلى ما لحّن أو غنى، بطريقة مختلفة أيضا. وبعد مرور هذه الفترة على نصيحة، أو أمر، جورج جرداق، توصلت إلى رفع قناعات ساذجة أكتبها قبل أن أعرضها عليه، خوفا من أن ينقدها وينقضها ويجعلني أخجل من نشرها.

أعتقد أن من صنع رياض السنباطي رجل يُدعى محمد عبد الوهاب، ومن ظلم السنباطي وأبقاه بعيدا عن ماسة التاج الفني، رجل يُدعى محمد عبد الوهاب. كان السنباطي يعتقد أنه مهما لحّن وغنّى فسوف يظل هو الثاني وعبد الوهاب الأول. وكان في الوقت نفسه يعتقد أن عبد الوهاب لا يملك موهبته الموسيقية وإنما يملك الحظ والتوفيق والأصدقاء ولذا يجب أن يهزمه. وفي هذه المبارزة غير المعلنة، أدرك السنباطي أن السلاح الأكثر مضاء في هذه المعركة ليس صوته بل صوت أم كلثوم، كما أدرك عبد الوهاب، وهو الأستاذ العبقري، أن ثمة ما هو أهم من ألحانه وصوته وألحان السنباطي وصوته وما يُكتب لهما من شعر فصيح أو عامي. إنه صوت أم كلثوم! وضع عبد الوهاب لحن «إنتَ عمري» وفي اعتقاده، وفي اعتقاد جميع الناس، أن لقاءه مع كوكب الشرق سوف يلغي من أفئدة العرب كل تاريخها الماضي. ولم تمضِ أشهر على «إنتَ عمري» حتى ملأت الإذاعات العربية التي لم تعُد تذيع شيئا آخر.

لقد روّض عبد الوهاب، بمهارته وبراعته المعهودة، صوت أم كلثوم وحضورها وأعادها شابة مرحة أو مراهقة يهزها الطرب قبل أن يهز سامعيها. رياض السنباطي أراد أن يتفوق على خصمه بطريقة معاكسة تماما. أراد أن يعيد أم كلثوم إلى وقارها العاشق وعشقها المحافظ. وهكذا بعد عامين قدم لها «الأطلال»، وأنسى الناس لقاء القمة. ولَعلّي على خطأ.