«نحن العبيد في مجدك الأسود»

TT

من ألطف ما قرأت أخيرا، حكاية «الحب السري»، للشاعر أمين نخلة، كما رواها الكاتب العزيز ياسين رفاعية. كان ياسين، والروائية غادة السمان، والكاتب إسكندر لوقا، يشكلون المكتب الإعلامي الرئاسي في دمشق، أيام الوحدة مع مصر. وقد أحب الرئيس جمال عبد الناصر الشاعر اللبناني أمين نخلة، وآنس به مناصرا، ففتح له أبواب القصر، الذي صار الأمين يجيئه باستمرار، مدونا اسمه وولاءه في دفتر الزوار. ثم تكاثرت زيارات الأمين، ثم تكثفت وصارت يومية، والأمين لم يعد يعود إلى بيته في بيروت. ولاحظ الثلاثة، السمان ورفاعية ولوقا، أن الشاعر متيم بالعاملة على الآلة الطابعة، وهي ابنة عائلة محافظة، تدعى فريال. وحاروا ماذا يفعلون.. فإذا طلبوا من الشاعر التوقف عن المجيء، غضبت الرئاسة، وإذا تركوا له الحرية، افتضح أمر الشاعر الستيني، وإذا رفعوا الأمر إلى من هم أعلى منهم، قامت أزمة سياسية. ولم يدركوا أن فريال استطابت الحب العذري عند «خليفة أمير الشعراء»، إلا عندما سمعوه يلقي في إحدى الأمسيات قصيدته الشهيرة:

أنا لا أصدق أن هذا الأحمر المشقوق فم

بل وردة مبتلة حمراء من لحم ودم

فإذا بالفتاة المعنية تقف وتصفق، وظلت تصفق وحيدة بعدما سكن الجمهور، فوقف أمين نخلة مرة أخرى، وراح يلقي «القصيدة السوداء»، وهي من أجمل ما كتب في حسناء سودانية:

لا تعجل، فالليل أندى وأبرد

يا بياض الصباح والحسن أسود

ليلتي ليلتان في الحلك الرطب

فجنح مضى، وجنح كأن قد..

ست: نحن العبيد في مجدك الأسود

أهل البياض نشقى ونسعد

كرر أمين نخلة مقطع «نحن العبيد في مجدك الأسود» مرات عدة، وهو ينظر إلى الحبيبة السرية. وكان يجود أكثر وهو يلمحها تكاد تذوب في مقعدها، وكأنها «حيرى أنا يا أنا»، كما تقول فيروز. وبعد تلك الأمسية، اضطر ياسين رفاعية إلى إبلاغ الأمين، بأن الوضع شديد الحرج، فالناس كلها لاحظت أنه لم يعد يعود إلى بيته في بيروت، وعائلته تتساءل عن سبب المكوث الطويل في دمشق، وأهل السياسة يهمسون ويتهامسون، أي شقاء يشقي هذا الذي ادعى أن شوقي قال فيه:

هذا ولي لعهدي

وأمير الشعر بعدي

غادر أمين نخلة دمشق مكرها إلى بيروت. وبعد فترة، وقع انفصال سورية عن مصر، وامتنع عن زيارة دمشق تماما. لكنه ظل يكتب إلى صديقه ياسين رفاعية بأنه لا يزال متيما بصاحبة الكحل الأسود في مكتب الرئاسة في دمشق.