الأمن العربي هو المهدَّد.. لا الأمن الإسرائيلي

TT

مهبول أو مجنون أو سكران من يتوهم - من العرب -: أن الكرب الذي يحيق بهم اليوم قد بلغ سقفه الأعلى، وأن الأيام المقبلة ستشهد عدا تنازليا للكرب والبلاء.. لماذا هو مهبول أو مخبول أو مجنون أو سكران من يتوقع ذلك أو يتوهمه؟

هذه هي حيثيات الاتهام بالخبل والجنون:

أولا: إن (الاستيعاب الناقص) للمخاطر (قاعدة مستقبلة) لزيادة حدتها في الزمن الآتي. ذلك أن الزمن المهدر إنما هو فرصة واسعة لتراكم المخاطر وتوالدها: ما لم يُحتجز التراكم والتوالد بما يمنعهما من ذلك.. والمانع - في هذه الحالة - غير موجود عربيا!!.. ومن شاء أن يعزز هذه الحيثية ببراهين قوية فليقرأ ظروف ما قبل الحربين العالميتين: الأولى والثانية.. فلم يكن الساسة الأوربيون عديمي الإدراك للظواهر والمخاطر التي تطوي في أحشائها كارثة ما وشيكة، ولكن إدراكهم لحقيقة الكرب كان (ناقصا)، وهو نقص تسبب في العجز عن دفع البلاء قبل وقوعه: دفعا كليا أو جزئيا.. والعرب أدركوا أن قيام إسرائيل كارثة، بيد أن إدراكهم كان (ناقصا)، وهو نقص ترتب عليه ما يحيق بالعرب اليوم من أزمات وكروب يقفون أمامها حائرين مفجوعين.. ومن شاء أن يستمد البراهين على هذه الحيثية من واقع جد قريب، فهذه هي البراهين: لم يستوعب العرب - بالقدر الكافي - مجيء حكومة إسرائيلية مشحونة بأعلى معدلات الغلو والتطرف الديني والتاريخي والسياسي.. وكانت النتيجة المرة ما يعانيه العرب اليوم من استكبار إسرائيلي عليهم، وعدوان على مقدساتهم، ومن تعبئة دينية إسرائيلية عالية لشعوب المنطقة بأكبر شحنات (ردود الفعل الدينية) - الموازية في القدر، والمضادة في الاتجاه - وإنا لنسأل من يرتاب في ذلك سؤالا فكريا نفسيا سياسيا: مَن مِن الحكام العرب يستطيع أن يقنع شعبه - فضلا عن الشعوب العربية الأخرى - بأن الصراع مع الكيان الصهيوني ليس (دينيا).. كلا.. لن يستطيع حاكم عربي أن يقنع شعبه بذلك بينما هذا الشعب يرى إسرائيل وهي تدير الصراع بصراحة - بل بوقاحة - على أساس ديني سافر وصارخ: لا تأويل له إلا أنه صراع ديني 100% يتمثل في (تهويد) القدس كلها - جغرافية وبشرا - وجعلها (عاصمة) أبدية لإسرائيل.. إن أي حاكم عربي لا يستطيع أن يقنع ابنا أو بنتا له في السادسة من عمرها بتجريد الصراع من العقيدة الدينية، فكيف يستطيع إقناع شعب كامل؟.. ومن هنا، فإن النقص المروع في إدراك حقيقة مجيء حكومة دينية عنصرية متعصبة (دونها عنصرية النازي وتعصبه).. هذا النقص في الإدراك أوقع العرب في شر نظرتهم القاصرة.. وبديه أن العرب ما كانوا ليستطيعوا تغيير نتائج الانتخابات في إسرائيل، ولكنهم كانوا يستطيعون - لو أدركوا الخطر على حقيقته -: أن يعدّلوا من خياراتهم ومن حراكهم السياسي والدبلوماسي - في وقت مبكر - أو على الأقل أن يتحصنوا ضد المخدرات والمنومات التي نومتهم - بخداع ذاتي أو مخادعة خارجية - ثم فتحوا عيونهم على الكارثة الماثلة الماحقة.

ثانيا: مهبول مخبول من يتوهم: أن وجود إسرائيل مهدِّد وجوديّ للفلسطينيين فحسب.. ولسنا ندري كيف يُمكن أن يتطرق هذا الوهم أو (الحساب الخاطئ) - للتلطيف - إلى ذهن سياسي عربي وهو يعلم: أنه لم تكد إسرائيل تقوم حتى ماجت المنطقة موجا - منذ عام 1949 - بما هدم استقرارها السياسي والاجتماعي والاقتصادي عبر سلسلة انقلابات عسكرية سَطَتْ على مقاليد السلطة في أكثر من بلد عربي.. ومن المفارقة المذهلة: أن إسرائيل كانت (سعيدة) بهذه الاضطرابات في الوطن العربي: على الرغم من الشعارات المعادية لها!:

1- سعيدة بذلك لأن انشغال العرب بأنفسهم من الداخل يريحها من انشغالهم بعدوانيتها واحتلالها. 2- سعيدة بذلك لأن الاستراتيجية الدائمة لهذا الكيان المحتل تقوم على المعادلة التالية: استقرار إسرائيل وقوتها = الاضطراب المستمر في الوطن العربي، ولكي تتمتع إسرائيل بأطول مدة من الاستقرار يتوجب أن يوازي ذلك أطول مدة مماثلة من عدم الاستقرار في الوطن العربي - ككل - ومن عدم الاستقرار في كل بلد عربي على حدة.. وهذه الفلسفة الصهيونية الشريرة تعتمد على فكرة أشد شرا، وأوغل لؤما وخبثا وهي: أن الاستقرار قاعدة ضرورية للنهوض العلمي والتقني والاقتصادي.. وهذا النهوض العربي - القومي أو القطري - ممنوع إسرائيليا، ذلك أن (الضعف العربي) هو الضمان الوحيد لبقاء إسرائيل واستقرارها.. ومنطق هؤلاء المعتدين المحتلين هو: أننا إذا تركنا العرب يكتسبون عناصر القوة والنهوض، فإن ذلك تهديد جدي لوجودنا وازدهارنا لأننا إذا ضمنا بعض الحكام في هذه الحقبة، فقد يأتي حكام جدد - غير مضمونين - يجدون بلادهم قوية فيطمحون إلى مواجهتنا بعد أن يشعروا بتغير في موازين القوى لصالحهم، أو أن هذه الموازين قد تكافأت.. ونستعيد - ها هنا - مقولة بنيامين نتنياهو. فقد قال عندما كان رئيسا للوزراء عام 1996: «إن السلام الحقيقي مع العالم العربي لن يتحقق حتى تنتشر الديمقراطية وتتأصل هناك».. فالسلام في نظر هذا الصهيوني المستكبر المستعلي مشروط بـ(تغيير) العالم العربي، وإقامة أنظمة ديمقراطية على مزاجه!.. وهذا تفكير يمس الأمن العربي في الصميم..

بناء على ما تقدم نقول: يتعين على مؤتمر القمة أن يخرج - على الأقل - بمنظومة مفاهيم قوية وجريئة تغير مناخ الهوان وتحدث انقلابا في طريقة التفكير والطرح السياسي.. من هذه المفاهيم: أن المهدَّد - في حقيقة الأمر - ليس أمن الفلسطينيين وإنما أمن العرب أجمعين، وأن الأمن العربي هو المهدَّد، وليس أمن إسرائيل، وأن خطط المستقبل وحراكه ينبغي بناؤه على هذا الأساس.

والمسرح العالمي مهيأ لهذا المنطق العربي الجديد: لم يهيئه العرب، وإنما هيأته إسرائيل بعماها الاستراتيجي والسياسي والدبلوماسي (وهذه عاهة مميتة صاحبت تاريخهم كله).. ففي التراث اليهودي المشوه فلسفة نكدة هي (احتقار مبرمج للأغيار) - أي غير اليهود - وهي فلسفة أصبحت استراتيجية معتمدة للدبلوماسية الإسرائيلية الراهنة:

1- تعمدوا إهانة السفير التركي لديهم، ولكنهم تراجعوا بسرعة عندما شمخ الأتراك بعزتهم المعروفة.

2- تعمدوا إهانة نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن عندما كان بين ظهرانيهم، وهي إهانة استفزت الإدارة الأمريكية.. ولم يكد وقع هذه الإهانة يخف حتى عززه نتنياهو بإهانة جديدة حيث أُعطي الضوء الأخضر لبناء 20 وحدة استيطانية جديدة في القدس، وهو لم يزل في البيت الأبيض!

3- تعمدوا إهانة بريطانيا عندما استخدموا جوازاتها في عمليات اغتيال.. ثم عندما مارست بريطانيا حقها في السيادة من خلال طرد دبلوماسي إسرائيلي متورط في عملية الاغتيال الإرهابي.. عندما مارست بريطانيا حقها هذا أهانوها من جديد حيث وصفوا البريطانيين بـ(الكلاب).

4- وتعمدوا إهانة العالم الإسلامي كله بإجراءات تهويد القدس، وبضم المسجد الإبراهيمي، ومسجد بلال إلى التراث اليهودي.

والمسرح العالمي مهيأ - من جهة أخرى - لتفهم حقيقة أن إسرائيل كيان معاد للسلام.. خارج على القوانين والمواثيق والأعراف الدولية.. ومن القرائن على هذا التهيؤ:

أ - شعور الأمريكيين المتزايد بأن سياسة نتنياهو وفريقه المتطرف تنزل أفدح الأضرار بمصالح الولايات المتحدة وأمنها القومي، وصورتها لدى الرأي العام العالمي ولا سيما الرأي العام العربي الإسلامي.. ولقد تأكد الأمريكان من هذه الحقيقة بعد زيارة نتنياهو لواشنطن، فقد جيء به لتليين موقفه على نحو يحافظ على المصالح الأمريكية، ولكنه تصلب أكثر وضحّى بكل هذه المصالح في سبيل أهوائه الأيدلوجية، وهوسه التاريخي.

ب- استهتار إسرائيل الجلف بجوازات سفر عدد من الدول الغربية. فجواز السفر - في العرف الدبلوماسي - رمز لسيادة الدولة وكرامتها وشرفها. فلما احتقرت إسرائيل هذا العرف بواسطة استخدام جوازات سفر أوربية في عملية اغتيال، باءت بردود فعل غاضبة ومتصاعدة.

ج- إدانة اللجنة الرباعية لما تقوم به إسرائيل من انتهاكات في القدس والأرض المحتلة عموما.

د- أدان الاتحاد الأوربي الإجراءات الإسرائيلية في القدس، ولاسيما إجراء بناء 20 وحدة استيطانية في جبل أبو غنيم.

هـ - أدان مجلس حقوق الإنسان الدولي الانتهاكات الإسرائيلية في القدس.

و- قال بان كي مون - الأمين العام للأمم المتحدة -: «إن القدس أرض محتلة بموجب قرارات دولية ولذلك نرفض تصرفات إسرائيل في هذه المدينة المقدسة».

إن هذه المناخات فرصة جديدة وواسعة أمام القمة العربية في ليبيا.. لكن الفرص تتطلب مستثمرين، ومن الاستثمار الجيد تغيير المفهوم الأميركي للوظيفة الإسرائيلية التقليدية في المنطقة، بعد أن ثبت تناقض هذه الوظيفة مع المصالح الأميركية.