الطريق إلى مكة.. لكل رحال حكاية

TT

تشكل قراءة أدب الرحلات بالنسبة لي حدودا قصوى من المتعة والتشويق والمعرفة، فجل ما وصلنا عن العالم جاء عبر قنوات الرحالة الذين شاهدنا بعيونهم أرض الله الواسعة، وما عليها من بشر وشجر وحجر. وتمدنا منظومة رحلات الحج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة عبر العصور بأضخم سجل لتاريخ المدينتين المقدستين، ومن هؤلاء الرحالة مسلمون جاءوا لأداء الفريضة، ومنهم جواسيس انتدبتهم الدول الاستعمارية الكبرى للتعرف على مصادر إلهام المسلمين، وأثر الحج على سكان المناطق التي تقع تحت دوائر نفوذهم، فادعوا الإسلام، وتدثروا بأسماء عربية، ومنهم مغامرون غربيون، دفعتهم روح المغامرة لاستكشاف هذه المناطق المجهولة في ثقافتهم الغربية، ويعد البولوني لودفيكو فارتيما - الذي أطلق على نفسه اسم يونس المصري - أول أوروبي مسيحي يدخل مكة المكرمة والمدينة المنورة، وقد بدأ رحلته الشهيرة من البندقية سنة 1503 إلى القاهرة، ثم بيروت، فطرابلس، فحلب، فدمشق التي تعلم فيها العربية، ثم المدينة المنورة، فمكة المكرمة، فجدة، فجيزان، فعدن التي قبض عليه فيها بتهمة أنه نصراني يتجسس لحساب البرتغاليين، وسيق في اليوم نفسه إلى قصر السلطان كي يعدم، ولكن تأخر تنفيذ الإعدام فيه لغياب السلطان فقبع في السجن طويلا، قبل أن يتمكن مجددا من نيل حريته ومواصلة رحلاته إلى عدد من المدن اليمنية، وصولا إلى الهند ومنها إلى أوروبا. وهناك الرحالة الإسباني دمنجو باديا ليبليخ الذي انتحل اسم أمير منحدر من أسرة الخلافة العباسية، وهذا الاسم هو على باي العباسي، ويرجح البعض أنه كان عميلا لنابليون، ووصل إلى مكة المكرمة ضمن قافلة الحج المصري عام 1806، وتعرض خلال رحلته للكثير من أهوال البحر ومخاطره، كما تعرض للسلب والمرض. وهناك أسماء أخرى كثيرة أمثال: الهولندي فان دون بروكه، والإنجليزي جوزيف بيتس دكستير، والدنماركي نيبور، والألماني ستيزن، وغيرهم، ووراء كل رحالة من هؤلاء قصة تستحق أن تروى.

ومن أهم الكتب التي صدرت حديثا، واهتمت بهذا المجال كتاب «جمهرة الرحلات» بمجلداته الثلاثة للباحث والإعلامي السعودي المعروف أحمد محمد محمود، الذي تفرغ سنوات لهذا العمل الموسوعي الكبير الذي ستتجاوز أجزاؤه العشرة مجلدات بعد اكتمالها. والكتاب يرتقي لأن يكون الموسوعة الأهم لرحلات الحج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة عبر العصور المختلفة، وهو عمل غير مسبوق على هذا النحو من الشمولية والدقة، فقد اقتفى الباحث أثر الكثير من الرحالة، وتعمق في تحليل الكثير من الرحلات، وهو بهذا العمل يمد المكتبة العربية بكتاب يجمع مختلف ما تناثر من كتب الرحلات قديمها وحديثها، وهذه الرحلات في مجملها تعتبر سجلا للكثير من المشاهدات التي رصدها الرحالة عن المدينتين المقدستين، وطرق الوصول إليهما، ونحن في حاجة إلى قراءة هذا السجل الشامل، ليس للتعرف على صورتنا في عيون الآخرين فحسب، ولكن لتعميق إدراكنا بتاريخنا وهذا هو الأهم.

[email protected]