هل أعيد إنتاج الاستقطاب الطائفي؟

TT

هناك رأيان متناقضان اليوم حول إفرازات الانتخابات العراقية؛ الأول يرى أنها مثلت خطوة متقدمة باتجاه مغادرة الطائفية بدليل تراجع حصة الأحزاب الدينية وتفوق قوائم ذات صبغة مدنية أو علمانية. والرأي الثاني يرى أنها أعادت إنتاج الاستقطاب الطائفي بدليل أن التصويت في سياقه العام اتخذ شكل تفضيل الشريك الطائفي، بحيث صوت الناخبون الشيعة في غالبيتهم الساحقة لقوائم تغلب عليها الصفة الشيعية، وصوت الناخبون السنة لقوائم تغلب عليها الصفة السنية.

إن هاتين المعالجتين تعانيان من عدة إشكاليات، فالطائفية لا تعني الانتماء لطائفة معينة بقدر ما تعني تسييس هذا الانتماء وإعطاءه الأولوية على ما سواه عند التصويت. وفي هذه الحالة ينطوي كلا الموقفين على بعض الصحة. فمن جهة إذا كان غالبية سكان النجف هم من الشيعة، فمن الطبيعي أن يصوتوا لمرشحين عادة ما يصدف أنهم شيعة، وإذا كان غالبية سكان الموصل من السنة، فمن الطبيعي أن يصوتوا لمرشحين عادة ما يصدف أنهم من السنة، ولكن من جهة أخرى، بقدر ما كان التصويت لقوائم وتوجهات، فإن الانتخابات أفرزت في الحقيقة معسكرين رئيسيين لا يمكن وصفهما بالمعسكر الشيعي والسني، بل بالوطنية السنية والوطنية الشيعية.

في هذه الانتخابات لم يكن مهما ما إذا كانت القوائم منتمية بالمطلق لهذا المكون أو ذاك، بل ما هي التوجهات التي تقوم عليها هذه القوائم، ما هو مفهومها للماضي وما طبيعة الهوية «الوطنية» التي تعبر عنها. لقد غادرنا الطائفية بقدر ما تعني ولاء دينيا يتقدم على الولاء الوطني، وهي لم تكن متجذرة بهذا المعنى أبدا في العراق، بدليل الهزيمة الكبيرة التي مني بها تنظيم القاعدة والميليشيات الدينية الشيعية. لكننا لم نغادر الطائفية الاجتماعية بعد، بل إننا بمواجهة صراع سياسي وآيديولوجي حول مفهوم وهوية الدولة العراقية ذي جذور طائفية مخفية خلف بريق الصراخ بالوطنية ومصلحة الوطن، بل إنني أدعي أن هذه الطائفية هي أخطر من سابقتها، لأن الممثلين المعلنين للطوائف عادة ما يتفاوضون من أجل مصالح طوائفهم. أما الممثلون المضمرون الذين يمارسون الطائفية من دون إعلانها فهم لا يرضون بالطائفة سقفا للطموحات، بل يدعون تمثيل الآخر (رغما عن أنفه).

إذا كانت الطائفية الأولى لم تؤدِ إلى تقسيم العراق بسبب احتوائها عبر نظام الحصص، فإن الطائفية الثانية قد تنتج مثل هذا التقسيم إذا ما ترسخت، لا سيما أنها تستدعي معها الصراع الإقليمي، الذي يجري أساسا حول أي عراق يريده الآخرون في إقليم يعيش مرحلة من الاستقطاب يستعصي فيه على هؤلاء الآخرين أن يتفقوا على عراق معين، فيؤدي اختلافهم إلى تعقيد الوضع في الداخل، لأن البديل عن رغبة البعض بفرض تصوره للعراق هو في الحيلولة دون فرض الآخر تصوره.

لقد شهدنا في هذه الانتخابات قائمتين رئيسيتين تتنافسان على الصدارة، رغم أن رمزية الصدارة أكبر من تأثيرها الفعلي. القائمة العراقية تبنت تعريفا للوطنية يقوم على القراءة السنية التقليدية التي هيمنت على العراق بخطها المعتدل في العهد الملكي وبخطها المتطرف في عهد صدام - البكر، وكانت الواجهة الشيعية فيها حصان طروادة الذي أريد به تجاوز الوزن الأقلوي ديموغرافيا عبر خطاب سياسي يناغم رغبات بعض الشيعة الذين همشتهم سياسات السنوات السابقة. أما قائمة ائتلاف دولة القانون، فإنها قامت على التعريف الشيعي للوطنية المستند أساسا إلى الذكريات السيئة للعهود السابقة، وعلى رفض الخطاب السياسي الذي ساد فيها، وعلى التبشير بهوية عراقية منسجمة مع التطلعات الشيعية.

لقد أثبتت الانتخابات أن كلا الاتجاهين كانت له حدوده التي انتهت بالاصطدام بتطلعات الأغلبية الساحقة في المعسكر الطائفي الآخر، فكلا الخطابين عجز عن أن يتجاوز الاستقطاب الطائفي، بل وتحصن خلف خطوط الطائفة، ولكن بخطاب يعالج الطائفية مجازا ويستخدم رموزها تمويها. لقد اعتمدا التشدد في الموقف عند مخاطبة ناخبيهما كوسيلة أمثل لضمان أصواتهم، وقد نجحت هذه الاستراتيجية من حيث إنها حالت دون تسرب أصوات هؤلاء الناخبين إلى الطرف الآخر، لكنها كانت أيضا دليلا على الفشل في الوصول إلى الآخر وكسبه أو تغيير قناعاته.

كان الموقف تجاه اجتثاث البعث قد أدى إلى خسارة قائمة المالكي الكثير من حظوظها في الشارع السني بعد أن أصبح البعث مفهوما يصعب فصله عن السنة، لا سيما وقد اقترن بفترة هيمنتهم على السلطة والنظام السياسي. وفي المقابل كان خطاب القائمة العراقية بما يحويه من إشارات ذات نزعة قومية وتعاطف مع الماضي وتخوين للحاضر قد انسجم مع مشاعر الشارع السني وأثار مخاوف غالبية الشيعة من عودة التهميش. نجح هذا الخطاب في تحقيق عبور ضئيل للشارع الشيعي بمناغمة البعثيين الشيعة الذين كان تطرف بعض المسؤولين في المحافظات تجاههم قد أحيا مخاوفهم، لكنه بالتأكيد أعاد خندقة الغالبية الشيعية الكارهة للحقبة البعثية وربما سينتج تخندقا سياسيا لاحقا لـ«قطع الطريق» على «عودة البعث».

لقد أحيت الانتخابات والاستخدام الغريزي للرموز وعدم البحث الجدي عن جسور للعبور إلى الآخر كل المخاوف التي تمنينا طمرها سابقا، ربما لتعيد إنتاج معادلة شبيهة بالسابقة جوهرها التخندق والشك والتربص.