سنة الرحمة

TT

لا أعتقد أن هناك من كتب عن تاريخ العراق الحديث أغزر مما كتب الدكتور علي الوردي، فكتابه المعنون بـ«لمحات عن تاريخ العراق الحديث» جاء فيه ما يلي:

«ومن النوادر التي تروى عن تلك الأيام، أن رجلا رأى في منامه كأن الملائكة كانوا يمرون في الزقاق يسجلون عدد الذين سيموتون في كل بيت، وقد وجد أن العدد الذي سجل عن بيته يطابق تماما عدد عائلته، ولما كان أفراد عائلته قد ماتوا جميعا من الأمراض ما عداه، أيقن أنه لا بد من موته قريبا، وحين استيقظ من النوم استعد للموت، فغسل بدنه ولبس الكفن، ثم تمدد نحو القبلة، وشاءت المصادفة أن يدخل في تلك اللحظة إلى البيت لص، وظن اللص أن صاحب البيت ميت، غير أنه فوجئ به على حين غرة وهو ينهض صارخا به، فوقع اللص ميتا من هول المفاجأة. وعند هذا أيقن صاحب البيت أن عدد الموتى الذي سجل عن بيته قد تم، فلا داعي لموته إذن، فبقي على قيد الحياة يحمد الله على نعمته».

طبعا ولا شك أن في هذه الحادثة شيئا من الخيال أو الأحلام، لكنها على الأقل تدل على كثرة الموتى من العوائل بسبب الأمراض التي تجتاحهم ولا تبقي ولا تذر، ففي الجزيرة العربية وفي العراق وفي الشام في حقب غير بعيدة، وقبل أن يتكرم علينا أهل الغرب وينجدونا بأمصالهم وتطعيماتهم، كانت الأمراض والأوبئة تجتاحنا وتعصف بنا دون أي شفقة، حتى إن سنة من السنوات يقال لها تهكما «سنة الرحمة»، تلك السنة أبادت عوائل بأكملها عن ظهر البسيطة، وأماتت ألوفا مؤلفة أكثر مما أبادت الحروب.

وفي تلك السنوات العجاف، مثلما ذكر الرواة، قلما تجد رجلا أو امرأة ممن كتب لهم البقاء، إلا وهو أعمى أو أعور أو على الأقل «مخربش» الوجه من آثار الجدري.

هذا هو واقعنا الذي كان، والذي يريد البعض أن يغطوه (بالغربال).

وبما أنني صريح، ووجهي مثلما يقال «مغسول بمرق» - أي أنني أكشف المستور - ولا أتردد عن كشف العيوب والنقائض حتى عن نفسي الأمارة بالسوء، فلا بأس أن أحكي لكم عن واقعة ليست فيها أي فكاهة ولا مزية بقدر ما فيها من تعجب وضياع عقل..

وحيث إن «محسوبكم» الذي هو أنا، يعرف جيدا ما لمطاعم «الكازينوهات» - أي محلات لعب القمار والميسر – أقول: ما لهذه المطاعم من مأكولات جيدة يغرون بها الزبائن ويجرون أقدامهم إليها، كنت على الدوام عندما أذهب إلى أوروبا أرتاد هذه المطاعم، وعندما أملأ بطني أخرج سريعا ولا «أهوّب» ناحية صالة اللعب، حفاظا على عقلي وجيبي..

المهم أنني بينما كنت أجتاز المقهى المفضي إلى المطعم، إذا بشلة من «بني يعرب» يتضاحكون ومتحلقين حول إحدى الطاولات يتناولون المرطبات، ويبدو أن بعضهم عرفوني، فنادوا علي وجلست معهم، وعرفت منهم أنهم جالسون ينتظرون زوجاتهم للخروج من «الكازينو»، وفعلا ما هي إلا عدة دقائق، وإذا بامرأة «ممروعة» وهي زوجة أحدهم تتعلق برقبة زوجها قائلة له بدلع ممجوج: «أرجوك يا حبيبي بس (ألف جنيه) الله يرضى عليك ما أبغي غيرها»، فقال لها زوجها (الفحل): «لقد أعطيتك يا بعد روحي (عشرة آلاف) وخسرتها»، فقالت له بدلع (مقرف): «أنت ما تعرف يا نور عيني أن الذي يخسر باللعب يكسب بالحب؟!»، فقهقه الفحل قائلا: «آه منك أنت (يا أروبة)»، وأعطاها بدلا من الألف ألفين، وذهبت «تنطنط»، وكأنني أراها الآن، وهي بالكاد تحمل مؤخرتها التي لا أستبعد أن وزنها أكثر من «طن».

ويا ليت تلك المرأة مع زوجها (الفحل) قد عاصرا «سنة الرحمة».

[email protected]