النفس الكريهة

TT

سألت نزار قباني مرة: «من هو أعظم معاصريك من الشعراء؟»، ومن دون أي تردد أجاب: «بلند الحيدري». واعتقدت أنه لم يستوعب السؤال، أو أنه لا يريد أن يجيب، فقلت: «أبا إبراهيم. الجواب ليس للنشر. أريد رأيك بصدق». قال: «اسمع يا فلان، ثمة غابة من الكواسر والمرتزقة في الخارج. شعراء كذبة وكتاب يغيرون لون الحبر مع لون سرير الضيافة، ومقنعون يسطون بالأقلام بدل المسدسات. وفجأة يلوح لك في عالم النخاسين نور هادئ مثل بلند الحيدري. قد لا يكون أعظم الشعراء شعرا، لكنه أعظمهم خلقا، وقد لا يكون أكثر الكتاب ثقافة، لكنه أكثرهم برا بمعرفته، وهو لم يبن شهرة كبيرة، لكنه بنى وداعة لا مثيل لها رغم ما يحيط بنا من خنافس وقنافذ».

بقيت في داخلي غير مقتنع بجواب نزار، بل بأنه لا يريد أن يعطي اللقب لأحد من أبناء جيله. وعندما غاب بلند الوديع مبكرا عام 1996، فوجئت مرة أخرى بما كتب نزار في وداعه. إليكم بعض هذه الوثيقة التاريخية التي تزداد أهميتها الآن:

الشعر العربي الحديث ملعب ثيران، ينطح فيه الشاعر الشاعر، وتطعن فيه الكلمة القبيحة الكلمة الجميلة، ويغتال فيه غير الموهوبين أصحاب المواهب، ويطلق فيه الأقزام النار على كل كوكب مضيء.

ومن هذا المستنقع الذي تتكاثر فيه الطحالب، والنباتات الطفيلية، والزواحف، وأسماك القرش، طلعت زهرة لوتس ناصعة الألوان، مدهشة الأوراق، اسمها بلند الحيدري.

لا يهم أن يكتب الشاعر شعرا جميلا..

بل المهم أن يكون هو جميلا.

ولا يهم أن يطلق عليه لقب الشاعر الكبير..

بل المهم أن يكون هو كبيرا.

ولا يهم أن يكتب على ورق أبيض، إذا كانت نفسه سوداء..

وأخيرا لا يهم أن يلبس قناع الإنسانية..

إذا لم يكن في أعماقه إنسانا..

وشعره لا يشبه كتابته..

ما أكثر الشعراء الذين يرفرفون على أوراقهم كالفراشات.. ويتصرفون في المقاهي كالزنابير..

إنني شخصيا أرفض التفريق بين القميص والجسد، بين الأصل والصورة، بين العصفور والأغنية. أرفض أن تكون الوردة ذات رائحة كريهة.. وأن تكون الممرضة ذات وجه عدواني.. وأن يكون الشاعر بوهيميا، ومبهدلا، ومقطع الثياب، وقذرا، وبذيء اللسان.. ومتحللا من الأعراف والتقاليد.

فالقصيدة جزء لا يتجزأ من صانعها، ولا يمكنني أن أتصور شجرة ياسمين طالعة من منجم.