عملية تزوير بين الإعلام والواقع

TT

طالعتنا صحيفة «الغارديان» البريطانية في 24/3/2010 بعنوان أساسي على الصفحة الأولى: «عميل للموساد يُطرد بسبب مشكلة جواز سفر»، والعنوان الأصغر: «تحقيقات الشرطة وجدت أن إسرائيل زورت وثائق استخدمت من قبل مجموعة دبي».. ولم يكن العنوان الأساسي في جريدة «الهيرالد تريبيون» بعيدا عن روح هذا النص: «بريطانيا تطرد إسرائيليا بسبب جوازات مزورة». ماذا يفهم القارئ الغربي غير المتابع لدقائق ما يجري في الشرق الأوسط من هذه العناوين سوى أن هناك أزمة تزوير وثائق، أما مجموعة دبي، فهي مجموعة إسرائيلية إرهابية حكومية سافرت من إسرائيل إلى دبي عبر بلدان أوروبية كثيرة كي تغتال محمود المبحوح هناك، وهو الذي تم تهجيره وأفراد عائلته من فلسطين عام 1948 بالإرهاب الرسمي الإسرائيلي، وتعرضوا طوال أكثر من ستين عاما لكل أنواع الإرهاب والحرمان والحصار في غزة، ولأنه أعلن مقاومته لاحتلال عنصري بغيض هدر الكرامات وسد سبل العيش وانتهك المقدسات، فقد تم اتخاذ قرار حكومي بتوقيع نتنياهو باغتياله. جريدة «وول ستريت جورنال» الأميركية لم تكن أحسن حالا، حيث كان عنوانها الأساسي: «المملكة المتحدة تبعد مسؤولا إسرائيليا بسبب الجوازات». والسؤال هو: هل ما يسمى بـ«الأزمة»، هو أزمة تزوير جوازات أم أزمة سياسية أخلاقية حين تغطي سياسات دول غربية «متحضرة» عمليات اغتيالات وعمليات إرهابية مصادقا عليها من أعلى الهرم في حكومة تتصرف وكأنها فوق الشرعية الدولية، وفوق القانون الدولي، مع أنها تستبيح كل الأعراف والأخلاق والقوانين الإنسانية؟.. أم أن الموقف الرسمي العربي المتهاون مع إسرائيل وحلفائها جعل الدم العربي رخيصا إلى درجة أن الغرب لا يعنيه من يُقتل من هؤلاء العرب، وينتفض فقط ضد الإرهاب حين تهدر دماء أي إنسان غربي أو إسرائيلي؟ أم أن انتهاك القواعد الغربية في تزوير جواز هو أشد وأعتى من هدر حياة إنسان عربي كل ذنبه أنه يحاول أن يعيش حرا كريما على أرض فلسطين: أرض آبائه وأجداده؟

خمسة وعشرون قاتلا محترفا التأموا من بلدان وعواصم أوروبية عدة لاغتيال شخص يناضل من أجل الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، ويكافح ضد الظلم والعنصرية والاحتلال، ولم يكن الإجراء المتخذ حتى بالنسبة لتزوير الجوازات إلا في حدوده الدنيا، فقد أُبعد الدبلوماسي الإسرائيلي الذي زور الجواز، ولم يُطرد، وسيحل محله، بالطبع، خبير إسرائيلي آخر في تزوير الجوازات، ولم ترسل الطلبات بفرض العقوبات إلى مجلس الأمن، كما كان سيحدث لو كان بلدا عربيا متورطا في مثل هذه الأعمال الإرهابية، ولم يجدوا في هذه العملية الإرهابية ما يهدد الأمن في عواصمهم، ولم يطلب أحد محاسبة إسرائيل على أعمال إرهابية ترتكبها كل يوم في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع العالم «المتحضر» بينما يستصدرون قرارات مجلس الأمن، ويفرضون عقوبات على بلدان يعتقدون أنها تنوي امتلاك السلاح النووي الذي تمتلك إسرائيل منه مئات الرؤوس النووية على رؤوس الأشهاد، والذي قضى العالم النووي الإسرائيلي فعنونو سنوات في السجن والتعذيب والإقامة الجبرية ليحذّر العالم من خطر مفاعل ديمونة الإسرائيلي، إلا أن العالم «الحر» لا يريد أن يسمع ما تقوم به إسرائيل لأن الجميع يخشى «إيباك» وأخواتها. وإذا كان العالم «الحر» قد سمع على الأقل باغتيال محمود المبحوح في دبي، والشكر في ذلك لشرطة دبي، فإن مئات الفلسطينيين يتم اغتيالهم في قراهم ومدنهم وأحيائهم وتحت التعذيب في السجون الإسرائيلية يوميا دون أن يسمع بهم أحد، ودون أن تتعب وكالات الأنباء نفسها بنقل أسمائهم للقراء والمشاهدين. وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي يوم الاثنين 22 مارس (آذار) وبدم بارد الشابين محمد فيصل قواريق وصلاح محمد قواريق اللذين كانا يحملان أدوات زراعية ويتجهان إلى أرضهما شرق قرية عورتا في الضفة الغربية، حين أوقفهما جنود إسرائيليون وأطلقوا عليهما النار. وفي اليوم ذاته توفي الفتى سيد قادوس (17 سنة) متأثرا بإصابته برصاص الجيش الإسرائيلي في اليوم السابق في قرية عراق بورين جنوب نابلس، وكانت قوات الاحتلال قد قتلت فتى قريبا لقادوس في القرية نفسها هو محمد قادوس (16) عاما. وهكذا فإن دم الشعب الفلسطيني الأعزل مستباح داخل فلسطين وخارجها، والعالم «المتحضر» كله يتجاهل قدسية هذا الدم وقدسية حياة الفلسطينيين، ويتحدث عن اغتيال أب وابن وزوج يتوق للكرامة والحرية بلغة «أزمة جوازات»، لا بل وحين تصدر الرباعية، أو أي هيئة، بيانها عن الوضع الفلسطيني تصدّره بجملة معتادة «على الفلسطينيين والإسرائيليين»، وكأن الفلسطينيين يمتلكون السلاح والمال ويحظون بالدعم الدولي والتفهم الذي يحظى به الإسرائيليون في الولايات المتحدة والعالم الغربي عموما. وإذا كان العالم الغربي قلقا كما يدعي على «أمن إسرائيل» التي تقتل وتحتل وتهجّر وتهدم المنازل، فماذا عن أمن الفلسطينيين؟ الفلسطينيون هم الذين يحتاجون إلى أمن وحماية وعدالة وكرامة، وليس الإسرائيليين المدججين بالسلاح، والذين يجوبون عواصم العالم بجوازات سفر مزورة لارتكاب عمليات.

وحتى حين يقف الأمين العام للأمم المتحدة أمام مبنى في غزة دمرته الطائرات الإسرائيلية لا نسمع أي إشارة حقيقية إلى هول ما جرى، بل تكاد تكون العبارات المختارة دون معنى «يجب على إسرائيل تحسين وضع الفلسطينيين»، كما قال الأمين العام بان كي مون في مؤتمر صحافي عقده في رام الله، وكأن وضع الفلسطينيين سيئ بطبيعته وتاريخه، والمطلوب هو الدور الإيجابي من هذا الكيان الذي يُطلب منه تحسين وضع الفلسطينيين، بينما الواقع هو أن فلسطين الخضراء كانت جنة بلاد الشام إلى أن أدت السياسات الإجرامية الإسرائيلية إلى تدمير حياة ورزق وكرامة ومستقبل أبناء فلسطين، ولهذا فإن الأخبار القادمة أيضا هذا الأسبوع عن موقف هيلاري كلينتون من الاستيطان في خطابها في «إيباك»، أو اللقاء الصعب الذي أجراه أوباما مع نتنياهو في البيت الأبيض، لن تجدي نفعا لأنها لا تعالج جذر المشكلة، ألا وهو الاحتلال القائم على العنصرية وطرد وتهجير السكان الأصليين. ولا أعتقد أن مسألة الاستيطان يمكن حلها من خلال حوار في البيت الأبيض، بل من خلال إيقاف مصادر التمويل الأميركية للاستيطان الصهيوني في الأرض الفلسطينية، والتي لولاها ما تمكن الكيان العنصري من إقامة هذه المستعمرات وبهذه السرعة وعلى كل هذا الامتداد على الأرض الفلسطينية المحتلة. في نقاش بعنوان «إعادة تقييم العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل» نشر في مجلة «النيوزويك» روجر كوهين في 22 فبراير (شباط) يقول: «ما الذي يجعل علاقة الولايات المتحدة خاصة بإسرائيل، وعدم نقد سياسة إسرائيل حتى حين تتضرر مصالح الولايات المتحدة، وأيضا المبالغ الطائلة التي تُدفع لإسرائيل؟.. خلال العقد الماضي دفعت الولايات المتحدة لإسرائيل أكثر من 60 مليار دولارا.. أين استخدمت هذه الأموال؟ لقد نما الاستيطان في الضفة الغربية بزيادة 450.000 مستوطن إسرائيلي خارج حدود 1967، حيث تم إنشاء بنية من الطرق يستخدمها المستوطنون فقط وممنوع على الفلسطينيين استخدامها، ومناطق عسكرية إسرائيلية محظورة، وجدار فصل، والإسرائيليون يسيرون بسياراتهم على هذه الطرق السريعة، بينما الفلسطينيون في عربات أو على حيواناتهم يسيرون على طرق صعبة وقذرة للوصول إلى حقولهم».

حين وصفت الولايات المتحدة المقاومة الفلسطينية بالإرهاب منعت حتى التبرعات للمدارس والمشافي وأدوية الأطفال (ولذلك هناك ثمانون صنفا دوائيا مفقودا في غزة) بذريعة أن هذه الأموال تدعم الإرهاب بحيث لا يستطيع الأميركي أن يتبرع لإنقاذ حياة أطفال وقعوا ضحايا القنابل الفوسفورية الإسرائيلية، والمبرر هو «تجفيف منابع الإرهاب»، بينما الحقيقة هي المساهمة الأميركية الرسمية السخية، وبمبلغ ستين مليار دولارا، في حصار وتجويع وقمع الملايين من المدنيين الفلسطينيين العزل كي يرضوا صاغرين بنظام الفصل الإسرائيلي العنصري والأبارتيد الصهيوني.

أما وأن الكيان الصهيوني يتحدى الإرادة الدولية ويستمر في بناء المستوطنات، فإن العلاج لا يكمن في جلسة حوار في البيت الأبيض، بل في اتخاذ إجراءات أميركية رسمية، وأخرى دولية، تجفف التمويل لهذه المستوطنات، وهي إجراءات تعرفها وتتقنها حكومة الولايات المتحدة.

عملية تزوير جوازات السفر عملية بسيطة مقابل تزوير الإبادة العرقية القائمة في فلسطين، والتي يسهم الغرب منذ قرن في استمرارها، وذلك نتيجة التعامل الغربي مع حكومة إسرائيل وكأنها ليست كأي حكومة في العالم يجب أن تكون خاضعة للشرعية الدولية وشرعية حقوق الإنسان.. وإلى أن يتم ذلك لا جدوى من التظاهر بالضغوط والتشدد والنية في المحاسبة. فقد أصبحت اللعبة مكشوفة للجميع، واللاعبون أصبحوا معروفين، ومساهماتهم الحقيقية في استمرار هذا الطغيان الإرهابي الإسرائيلي الرسمي لم تعد سرا على أحد.