للتجديد يلزم استصحاب قدسية المبادئ

TT

للكتابة مناهجها، وللكتَّاب طرقهم وأفكارهم وانتماءاتهم وأهواؤهم.. وحتى تبقى الحقيقة حاضرة للعيان، شاهدة على تفاصيل الرأي والفكر، يلزم استصحاب المنهج القويم في العرض والتحليل، وبخاصة عند تناول القضايا الكلية التي تمس الخاص والعام من قضايا المجتمع وشؤونه، وهذه ليست مسؤولية الكاتب وفق رقابته الذاتية فحسب؛ فالكاتب قد يقوده هواه، أو يحركه انتماؤه ومراميه، لكنها مسؤولية المجتمع ورقابة مؤسسات الدولة، فلو أن لكل كاتب هواه في أن يكتب ويقول ما يقول دون قيد أو مسؤولية؛ لاضطرب فكر المجتمع وتشتت الرأي فيه، وعندها تتولد الصراعات.

لقد عاش الغرب تجربة «نظرية الحرية» المطلقة في الإعلام «وكان هذا التوجه مفهوما بكل أبعاده في مجتمع خرج لتوه من تسلط الكنيسة وسيطرة رجال الدين»، وما لبث قادة الرأي وصناع الفكر في الغرب أن طوروا نظريتهم إلى شكل جديد يحمل بُعد «المسؤولية الاجتماعية» من أجل الحد من الانفلات الاجتماعي الذي خلقه التحرر الإعلامي الذي تصادم مع منطق العقل السوي المفضي لمصلحة المجتمع، فتم منح الإعلام (مؤسسات وأفرادا) كامل الحرية، لكنه في الوقت ذاته خاضع للمسؤولية الكاملة أمام تشريعات المجتمع.

فالمطالبة بمنح الحريات المطلقة ورفع الرقابة ضرب من التخبيط الساعي لتمرير أهواء الفكر ونوازع السلوك خارج النسق الطبيعي للمجتمع!

«في السنوات القليلة الماضية» ظهر اتجاهان متوازيان يقودان الحركة الثقافية السعودية، تصاحبهما سيطرة إعلامية مؤسسية على هاتين الساحتين، الاتجاه الأول: العمل الدؤوب للتخلص من كل قيد وضابط يحكمهما، والاتجاه الثاني: زرع قيادات فكرية بديلة تحمل هذا التوجه في المجتمع، والحمل بقوة على كل فكر ورأي يخالف المنهج الجديد.. وأصبح المجتمع بين موروث يتملك جذوره، ومستحدث يسعى لأن يكون البديل!

التجديد في الفكر مطلب لكل مجتمع يسعى للنمو والتطور والإبقاء على روح الشباب في كيانه، ولكن الفرق كبير بين التجديد وخلق البديل، فالأول نماء للفكر وقوة لحامله، والثاني تعامل أهوج مع واقع لا يمكن أن تنتزع منه روحه التي يعيش بها لتمنحه روحا جديدة.

أمامنا تجربتان عمليتان: الأولى: خاضها الاتحاد السوفياتي عندما تقدم ميخائيل غورباتشوف بالمشروع البديل «بيروسترويكا» للحياة السياسية والاقتصادية والثقافية لمجتمع غارق في فكر شمولي وحياة شيوعية في مساراتها المختلفة، في ظل رداء اشتراكي لاقتصاد الدولة، فلم يستوعب المجتمع البديل الغريب، فتقلب في حياة من الفوضى الأمنية والسياسية والسلوكية والاقتصادية، في كل اتجاهات الحياة دون استثناء، مما أدى إلى تفكك الإمبراطورية العظمى «الاتحاد السوفياتي»، وحلت بدلا عنه دوليات غارقة في مشكلاتها الإنمائية، ولم تكن روسيا الاتحادية وريث الاتحاد السوفياتي بمنأى عن ذلك، حتى تحرك الوطنيون الروس للنهوض بواقع بلدهم وبناء مستقبل جديد مبني على مبادئ الحضارة والثقافة الروسية، فيما عرف لاحقا بروسيا بوتين، ولكن استغرق ذلك أكثر من خمس عشرة سنة عجاف، لم يسندها إلا العمق الحضاري والقوة التقنية في الميدان العسكري الروسي، وفي المقابل كانت الصين «التجربة الثانية» التي استوعبت الدرس الروسي، فلم تخلق البديل بل عملت على التجديد مع التمسك بأقصى درجات قدسية المبادئ الصينية، فنهضت الصين ولهث العالم أجمع وراء مارد استفاد من تجارب الآخرين فبنى مستقبلا واعدا بل مخيفا للعالم الخارجي.

ولعل بالمثال العربي يتضح المقال: حيث عاش العالم العربي خلال مرحلة الاستعمار الأجنبي وما بعدها في محيطه الواسع، عاش تجربة مقاربة لما تمر به مجتمعاتنا العربية المعاصرة، حيث عملت القيادات الفكرية وبعض الاتجاهات السياسية على زرع توجه جديد يقود الأمة العربية الإسلامية بعد انتهاء عصر الخلافة الإسلامية العثمانية ونشوء كيانات عربية متفرقة معظمها تحت الاستعمار الأجنبي، فتنادى المثقفون العرب بـ«القومية العربية» كرابط وشعار بديل للرابطة الإسلامية، وتكونت لها تحالفات، وقادة رأي، ومؤسسات مجتمعية وعلمية وإعلامية، وأرادت بذلك زرع روح الأمة الإسلامية في محيطها العربي وإبدالها بروح قومية تجمع أطيافها وفق رابطة اللغة، وتنفي عنها أي رابطة أخرى، حتى تغنى شاعرها «فلا دين يفرقنا»! فإذا المجتمعات العربية تتصادم فيما بينها، وفي داخل كل مجتمع عربي زُرعت فيه بذرة القومية العربية نشأت ثورات دموية غصت بسببها السجون العربية، واختلط الفكر القومي العربي بالفكر الثوري الاشتراكي بحثا عن مخرج؛ فسقطت القومية العربية كشعار، وقبل أن تسقط أصّلت في عالمنا العربي روح التنافر والخلاف، وما ذاك إلا كون دعاتها لم يستصحبوا قدسية المبادئ فحسب، بل تجاهلوها وعملوا على وأدها، فتحولت القومية العربية إلى جيفة عفنت فكر الأمة وأجواءها الثقافية والسياسية، فالعروبة عز ورمز إن هي في دائرة الإسلام، وجيفة نتنة إن هي تحركت خارج فضائه.

وكذا مستجدات الفكر والسلوك في كل زمان لا يمكن أن يستقيم شأنها وأن تكون أداة إصلاح وبناء إن نشأت خارج نسق فكر المجتمع وبنائه الذاتي، فما بالك إن قامت على أساس مصادمة فكر المجتمع ورموزه والعمل على إقصاء روحه؟! فعندها يأتي دور مسؤولية المجتمع، أو رقابة مؤسسات الدولة؛ لترشيد الرأي وضبط الفكر وفق مسيرة البناء المشترك.. تحفظ في إطاره قدسية المبادئ، ويُستصحب فيها احترام رموزها، فإن فَكَكْتَ قيد العامة ورباطها بأصولها، تشتت المجتمع وتباين الانتماء وسقط الولاء للكيان، وتبدل ذلك كله بروابط أخرى ونوازع شتى!

فهل كتب علينا في حياتنا المعاصرة أن نعيش تجربتنا العربية المريرة من جديد بثوب ليبرالي نتخبط فيه؟!

* مستشار إعلامي

وباحث في الشؤون السياسية