فرصة للمعتدلين تحت وقع طبول التطرف

TT

«وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى الناسِ وَيَكُونَ الرسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا»

(البقرة – 143)

من واشنطن إلى القدس، ومن بغداد إلى بيروت، من طهران إلى غزة.. المعادلة واحدة والمنطق واحد. وفي الخلفية.. صراع مصالح، لا يرحم ولا يسمح لأي فرصة بأن تفوته.

ثمة صراع مصالح في منطقة الشرق الأوسط، يذهب البعض إلى اعتباره صراع وجود وبقاء.

منذ مطلع القرن العشرين مع دبيب الترهل في جسم الدولة العثمانية، القوة الكبرى المسيطرة يومذاك على المنطقة، كان طبيعيا أن تحوم طيور الرمم فوق «جثة» ستصير لها نهبا حلالا. وهكذا، بالتوازي مع معاهدة «سايكس – بيكو» ولد «وعد بلفور».

وقبل بضعة عقود، استثمر أصحاب «المعاهدة» و«الوعد» العصبية القومية المتنامية في اتجاهات متعاكسة تحت ما كان فعليا خيمة «دولة الخلافة».. الدولة التي غفل عن بال حكامها الأتراك أنها تعددية من حيث التركيب السكاني، بجانب كونها تحكم باسم دين نهى عن العصبية القبلية، وتكلم عن «أمة وسط» - بمعنى أمة تؤمن بالعدل وتقوم عليه وترفض الغلو والتطرف - وأعلن على الملأ أن «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى».

ورغم الروح الإصلاحية والدستورية الطيبة التي ولدت داخل الدولة العثمانية بهدف التحديث والتطوير ومواجهة التحديات الخارجية، عجز «متشددو» الإصلاح عن استيعاب عمق الأزمة وأنجع السبل لمعالجتها. ومع تأثر بعض هؤلاء بنشوء الحركات «القومية» في أوروبا اكتسبت الانتفاضة الإصلاحية على ممارسات الباب العالي (السلطان) وسلطاته هوية قومية طورانية تركية. وبالتالي، كان بديهيا، أن يولد هذا النوع من «الوعي» – أو حتى التطرف فيه - رد فعل بالقوة ذاتها والشمولية ذاتها في الاتجاه المقابل، وهكذا انتعشت القومية العربية، في وجه تيار «التتريك» الطوراني، كما لم تنتعش منذ قرون. وأتاح استثمار ديناميكيتها المتجددة للقوى الأوروبية تفجير الدولة العثمانية من الداخل، ثم تصفيتها في الحرب العالمية الأولى، وبناء نظام عالمي جديد، اتخذ شكل الانتدابين الأنجلو – فرنسي وبداية الاستعمار الصهيوني في الشرق الأوسط.

التشدد دائما يولد التشدد ويبرره.

هذا ما عاشته المنطقة العربية ومحيطها منذ 1920. ثم بوتيرة أسرع عام 1936. وأسرع بكثير بعد 1948 مع قيام إسرائيل، ثم 1967 مع سقوط صدقية الأنظمة الذي تسارع مع «حرب التحريك» عام 1973. ثم 1979 بولادة الخيار الإيراني الديني المسلح كما جسدته «الثورة الخمينية». ثم 1989 مع نهاية الحرب الباردة بانكسار المعسكر الشرقي وتراجع «البديل الاشتراكي» واتجاه التغييريين نحو مواقع «البديل الديني».

التشدد دائما يولد التشدد ويبرره، ليس فقط داخل العالم العربي، بل في كل مكان.

شهدناه في إسرائيل، حيث اختفى من الساحة، شيئا فشيئا، جيل الحالمين الرومانسيين المستعدين للتعايش مع «جيرانهم» وحتى الضحايا الذين اغتصبوا أرضهم، وجاء جيل المستعمرين إلى اللا نهاية وحتى قيام الساعة. جيل التوراتيين المسلحين الذين لا يعترفون بمؤسسات حكم ولا شرعية دولية ولا يفكرون حتى بمصالح تكتيكية قد تقضي بتنازل هنا أو مساومة هناك.

وشهدناه في إيران، حيث أخذت الثورة المتقمصة «مكارثية» متزايدة بمذاق صفوي إمبريالي.. تأكل أولادها تباعا، من مهدي بارزكان وأبو الحسن بني صدر وصادق قطب زاده، إلى إبراهيم يزدي.. إلى محمد خاتمي ومهدي كروبي ومير حسين موسوي.

في الولايات المتحدة أيضا، البلد الحلم الذي انطلق باتجاهه أهل أوروبا، ومن ثم أهل الأرض جميعا، أملا بعيش حر كريم بلا اضطهاد أو تحامل، تغيرت الأحوال.

انتهى الحزب الجمهوري، الذي في يوم من الأيام أعطى الأميركيين أبراهام لنكولن - أعظم رؤسائهم وحافظ وحدة بلادهم - إلى قوة تطرف أصولي إنجيلي، وعدوانية غاشمة لا ترتوي ولا تشبع، وجشع مالي اقتصادي أسهمت نظرته الأنانية إلى عافية المجتمع بزج العالم كله في الأزمة الاقتصادية الأخيرة. وفي المقابل، غدا الحزب الديمقراطي الذي قام أصلا على احترام التعددية كما يفسرها مبدأ «حقوق الولايات»، ومن ثم تمثيل الأقليات، إلى قوة هشة لا تتحرك إلا رغبة بإجماع، ويكفي أي ابتزاز من أي جهة متطرفة لتشتيت تركيزه وخلخلة مبادراته.

اليوم، ثمة أكثر من ضوء خافت في نهاية النفق.

في واشنطن نسمع عن أن ما حظي به بنيامين نتنياهو من مستضيفه الرئيس الأميركي باراك أوباما، كان هذه المرة، دون ما يتوقع أن يحظى به زعيم إسرائيلي من رئيس أميركي ديمقراطي في سنة انتخابات نصفية.

لعله خير. قد يكون أوباما، الخارج للتو من انتصارين داخليين كبيرين في معركتي الاقتصاد والرعاية الصحية، وإنجاز خارجي ممتاز في الاتفاق الاستراتيجي مع روسيا، قد أقنع نفسه أخيرا بأنه زعيم فعلي. وبالتالي، من أبسط واجباته كزعيم عالمي أن يثبت للعالم أن السياسة الخارجية الأميركية لا يقررها غلاة المستعمرين الإسرائيليين و«سفراؤهم» في واشنطن من أميركيين نذروا حياتهم وجهودهم لخدمة إسرائيل على حساب مصالح بلادهم.

وفي العراق، قال العراقيون كلمتهم، وتبين أن كثيرين منهم رفضوا الولوغ أكثر في مستنقع الطائفية والطائفية المضادة. وحبذا، لو يبرهن قادتهم الآن أنهم في مستوى الشجاعة والمسؤولية اللتين أبداهما المواطن العادي، فيتاح لمبدأ تداول السلطة مجال، ويتأكد بأن لا أحد فوق الوطن وإرادة أبناء الوطن.

غير أن الصورة لا تزال قاتمة في أماكن أخرى. وقد نشهد خلال الأيام والأسابيع المقبلة، في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولبنان - وطبعا العراق أيضا - «تسابقا» بين ما يؤمل أن يكون مقدمة لا بد منها لكسر «الحالة الليكودية» الرافضة للسلام في إسرائيل، وبين خطوات إقليمية الدافع والتصور.. تفشل محاولات كسرها عبر إهدائها ذريعة الدفاع عن النفس.

إن أي ضغط أميركي على تل أبيب يمكن أن يتبخر مع أي تصعيد محلي داخل الأراضي المحتلة، أو إقليمي خارجها. والضغوط الأميركية، كما استشف خلال الأيام القليلة الماضية أخذت تخرج من النطاق السياسي إلى النطاق العسكري. فكبار القادة العسكريين الأميركيين، الأقل تأثرا من الساسة بنفوذ «اللوبي الإسرائيلي»، يحسبون حسابات وجود عشرات الألوف من العسكريين الأميركيين المستهدفين داخل العالم الإسلامي، في العراق وأفغانستان وأماكن أخرى. كذلك هذه القيادات أكثر استيعابا من «تجار السياسة» المدنيين لمعنى وجود إيران نووية في منطقة حساسة استراتيجيا من العالم.

بناء عليه، فإن انتقال زمام المبادرة، ولو جزئيا، إلى هؤلاء قد يعيد القيادات الإسرائيلية الانتهازية إلى جادة الصواب، فتستوعب مدى حاجة إسرائيل إلى رضا الولايات المتحدة، التي لا يريدها جنرالات واشنطن أن تظل دائما.. الكلب الذي يحركه ذيله!

إذا صح الكلام عن قلق إيهود باراك، وزير الدفاع (العمالي) الإسرائيلي، من خطر من هذا النوع. وإذا صح أيضا وجود مساعٍ تُبذَل لفرط حكومة نتنياهو الحالية، عبر صفقة تحالفية تعيد وصل ما انقطع بين نتنياهو ورفاقه السابقين في حزب «كديما»، فقد تتاح أمام أوباما فرصة حقيقية لتحقيق مبتغاه.

مجرد إفهام الناخب الإسرائيلي أن عواقب تعنته أكبر منه بكثير.. تبدو اليوم خطوة إلى الأمام. غير أن هذه الخطوة، طبعا، غير مضمونة التحقيق في حال رأى لاعبون إقليميون أن تعميم حالة من الاعتدال والواقعية سيمس مصالحهم، ويجهض استراتيجيتهم، ولا بد لهم من إجهاضها.