قاضي الحاجات

TT

لا أدري لماذا لا يدرجون نظم الشعر ضمن المهن والحرف الوطنية، فكثير من الناس يعيشون عليه. ربما نجد أنه المهنة الوحيدة التي نجيدها. اكتشف الشعراء ذلك منذ قرون فتعيشوا عليها وأصبحت صناعة منظمة، فقيل إن يزيد بن ضبة أنشد ألف قصيدة تقاسمها بقية الشعراء. منهم طبعا من كسب معيشته بالمدح. آخرون كسبوا ذلك بالذم، يهجون الحكومة أو أي وجيه من أغنياء المجتمع فيقمع لسانهم بالفلوس. تاريخنا مليء بأمثلة من ذلك. يقال إن الخليفة عمر بن الخطاب دفع للحطيئة مبلغا ليشتري منه أعراض الناس، ودفع هارون الرشيد ألف درهم عن كل بيت نظمه مروان بن أبي فحصة في هجاء آل أبي طالب، وكان قبله الوليد قد دفع مثل ذلك عن كل بيت مدحه فيه يزيد بن ضبة.

تسخير الشعر كقوة اقتصادية لعب أحيانا دورا تسويقيا كما حصل لتاجر من أهل الكوفة، جاء ببضاعة من الخُمُر لبيعها في الحجاز، فباعها كلها، ولكن لم تقبل النساء على الخمر السوداء اللون. تحير في أمرها فاستشار صديقه الشاعر والمغني الدارمي، وكان هذا قد ترك الغناء وتنسك. لم يعرف كيف يساعده في تسويقها. ولكنه فكر بوسيلة ناجحة؛ نظم له ثلاثة أبيات وغناها في السوق بجانب هذه الخمر السود:

قل للمليحة في الخمار الأسود

ماذا فعلت بناسك متعبد

قد كان شمر للصلاة ثيابه

حتى وقفت له بباب المسجد

ردي إليه صلاته وصيامه

لا تقتليه بحق دين محمد

لم تمض غير سويعات قليلة حتى باع التاجر كل ما جاء به من هذه البضاعة. ولكن الشعراء والمغنين تلاقفوا ما غناه الدارمي فراحوا يغنونها في عموم العالم العربي، وحتى في عصرنا هذا سمعناها تغنى مرة أخرى بصوت راوية، على ما أتذكر. والطريف في الأمر أن سحر الأغنية قد امتلك الدارمي فتخلى عن تنسكه وعاد للغناء.

ولا شك في أن كل هذه القصائد العصماء التي تركها لنا المتنبي ما هي في الواقع إلا أمثلة من استثمار الشعر في نيل ما تبغيه من منصب أو مكسب أو جاه. نجح بمثل ذلك الكثير من الشعراء المعاصرين الذين أصبحوا نوابا في المجلس أو سفراء لبلادهم أو شغلوا مناصب رفيعة وتزوجوا بنساء ثريات من بنات الذوات لا لشيء سوى معرفتهم بنظم الشعر.

ومن أطرف ما ورد في الأدب العربي في هذا الخصوص أيضا الحيلة الشعرية التي ابتدعها الأصمعي للتغلب على بخل الخليفة المنصور. وكان هذا قد ابتكر حيلة يتفادى بها دفع أجور الشعراء المداحين بالتظاهر بأن القصيدة معروفة فيتلوها له، ولكن الأصمعي جاءه متنكرا ومعه قصيدة معقدة يصعب على الخليفة وخدمه حفظها، بما أرغم الخليفة على الدفع. وبعد «انفضاح» الحيلة، ألقى الأديب الكبير كلمة بليغة بالنيابة عن نقابة الشعراء أشار فيها إلى فقرهم وحاجتهم للمساعدة والدعم من السلطة.