العراق يتكلم لغة جديدة!

TT

انتخابات العراق ليست انتخابات عادية، هي استثنائية في كل شيء، في نسبة الإقبال الكبيرة على التصويت التي بلغت 62% وهي نسبة تزيد لعى النسبة المسجلة في الانتخابات المحلية التي جرت العام الماضي، وسجلت المحافظات السنية أعلى نسبة للإقبال على التصويت قياسيا بالمحافظات ذات الأغلبية الشيعية، مثلا قالت مفوضية الانتخابات المستقلة أن نسبة الإقبال على التصويت في محافظة الأنبار السنية بلغت 61% بينما بلغت في محافظة صلاح الدين مسقط رأس صدام 73% مقابل 57% في البصرة المدينة النفطية التي يهيمن عليها الشيعة و53% في بغداد، كما يقول تقرير «رويترز».

هي انتخابات استثنائية في احتدام الصراع الواضح بين أكبر تكتلين سياسيين، تكتل رئيس الحكومة الحالي نوري المالكي وتكتل الرئيس السابق إياد علاوي، لدرجة أنه لم تحسم النتيجة إلا في الشوط الأخير، وما زال السيد المالكي يكذب عينيه ويتمثل ببيت الشاعر العراقي، المتنبي:

دهى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ/ فزعت منه بآمالي إلى الكذب!

ويبقى على المالكي، بعد أن يسلم بكل روح رياضية «عراقية» بالنتيجة أن ينتقل إلى صفوف المعارضة، ويكمل الاستشهاد بالبيت التالي المتنبي في هذه القصيدة:

حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا/ شرّقت الدمع حتى كاد يشرق بي!

هذه الانتخابات استثنائية في الدلالة على عدم إقناع الأحكام المتعجلة التي يصدرها بعضنا عن هيمنة الفكر الطائفي على كل العرب والمسلمين، بالذات العراقيين، وأنه لا أمل في أن يفكر هؤلاء الناس بطريقة عابرة للطوائف والحواجز المذهبية والمناطقية والعرقية، فقد صب أصوات العرب السنة صبا في خزانة العلماني الوطني «الشيعي» علاوي، لأنهم صوتوا له بوصفه رمزا جامعا للعراقيين، ومبشرا «بمزاج» جديد، وطريقة مختلفة في تدبير الشأن الداخلي، وإعادة تعريف «العراقي» انطلاقا من عراقيته وانتهاء بعراقيته دون المرور بشيعيته أو سنيته أو كرديته أو عروبته، ولذلك توشحت القائمة برداء «العراقية».

لاحظوا معي المفارقة: السنة العرب في العراق، الذين كان يهتفون باسم الزرقاوي ومجلس شورى المجاهدين، ويهددون بالذئب الأغبر عزت الدوري، طبعا بعضهم كان يهدد بهؤلاء، لكن ليس المهم العدد هنا بقدر أهمية انقلاب المزاج السني وعودته إلى مربع الوطنية العلمانية، لقد تخلوا عن كل مرحلة القاعدة والزرقاوي والكتائب العسكرية المتعددة، واصطفوا خلف رجل واضح العلمانية واضح الإيمان بفكرة العراق المدني العابر للطوائف، بل وأعلن بعيد خروج النتائج وفوز قائمته بالنسبة الأعلى أن هذا الفوز يعني «قبر الطائفية».

إنه تحول ضخم ومهم ومتجاوز للعراق، أنه تحول يعني أنه ليس قدرا علينا الانحشار في مربعات الطائفية وليس قدرا علينا أن نستسلم لمخاوف المستقبل وأن الناس يستحيل عليهم أن يفكروا بشكل غير غرائزي ولا بدائي وأنهم، أي الناس، جاهزون للانقضاض على بعضهم في اللحظة التي يتمكنون فيها من ذلك لولا قمع السلطات العربية.

لكن.. مهلا! هل يمكن البناء على «انقلاب» المزاج السني في العراق من الأصولية إلى العلمانية؟ وتعميم هذه الحالة والانطلاق منها، أم أنها «لحظة تجريب» واختبار من سنة العراق، واستجابة لمن وبخهم على الجري وراء القاعدة أو متطرفي البعث؟ وعليه فإنه لا يجوز الانجرار خلف هذا التحول الجديد والاعتقاد أنه في موسم انتخابي واحد ترك السنة طريقة تفكيرهم الطائفية أو المتعصبة المنسجمة مع طريقة تفكير الشيعة أيضا بل قل كل سكان المنطقة، وإنه لو شعر السنة أن خيارهم العلماني الوطني الذي تمثل من خلال إقبالهم الكثيف على مناصرة قائمة علاوي، لم يُجدِهم شيئا وظل أهل الحكم الحاليون من الأحزاب الشيعية الأصولية ومعهم الأكراد، يُقصُونهم أو يتعمدون الاستئثار بالنفوذ والحكم وشن حملات مطاردة الساحرات تارة تحت عنوان اجتثاث البعث وتارة تحت عنوان محاربة التكفيريين الصداميين، فكيف سيكون الحال عندها؟ وهل سيصمد هذا المزاج العلماني الوطني، أم ستعود الأمور إلى ما هو أسوأ وسيقال إنه لا فائدة من الانخراط في العملية الديمقراطية واستعمال الأداة الدستورية السياسية؟

من الصعب الجزم بشيء من هذه الخيارات، ولكن الكل يعرف أن أمر العراق لم يعد بأيد العراقيين وحدهم، هو شأن دولي وإقليمي، أميركا «القابلة» التي ولدت العراق الجديد، لن تتركه طفلا عاجزا، وإيران التي صرفت واستثمرت كثيرا في العراق، أحزابا ورجالا وأموالا، لن تتفرج على انحسار نفوذها، ودول العرب التي ألقت بثقلها من أجل إعادة الاستقرار إلى العراق ومكافحة الطائفية والإرهاب، لن تدير ظهرها لعراق الرشيد والمأمون وعراق الرافدين.. والنفط.. والعروبة.

تكلمت مع سياسي عراقي من قادة قائمة علاوي «العراقية» بعد فوزهم، وسألته: «هل انتهت المشكلات الآن؟» فاجأتني إجابته، حيث قال: «بل الآن بدأت المشكلات، أقول لك الآن بدأت الأزمة!».

دُهشتُ وسألته: «لماذا تسميها مصيبة مع أنكم القائمة الأولى وحققتم مفاجأة دوخت المالكي؟ قال: «إيران لن تسكت، إيران تعتبر أن الملعب العراقي ملكها، وقد حققت فيه نفوذا وحكما غير مباشر بعد أن كان العراق يشكل مصدر خطر عليها، هل تعتقد أنه يمكن لها أن تفرط بمكاسب الحكم غير المباشر الذي حصلت عليه خلال السنوات الأخيرة؟». قلت له: لكن لديكم الأغلبية النيابية «مبدئيا»، انتم حصلتم على ثقة أغلبية الشعب العراقي، وبمقدوركم التحالف مع كتل أخرى؟ أجابني: «نحن كنا شبه متأكدين، قبل خوض الانتخابات من أن العراقي مل من المناخ الطائفي، وأنه يريد حكومة خدمات واستقرار وعودة العراق إلى العالم دولة طبيعية، ويريد تعزيز فكرة المواطنة، ولذلك فكرنا في الخطوة التالية، أعني نتحالف مع من بعد الفوز». يكمل محدثي: «ولذلك كان تفكيرنا منحصرا في الائتلاف الوطني العراقي (الحكيم + الصدر) مع إضافة القائد الكردي الأهم مسعود بارزاني. استوقفته فسألته: «تقصد طالباني وبارزاني؟» فقال لي: «بل بارزاني نفسه، إذا استطعنا إقناع الحكيم والصدر ومعهم البارزاني بوجوب التحالف فإننا نقدر على تشكيل الحكومة وبناء مناخ سياسي جديد في العراق والاتجاه صوب عراق لا طائفي والتركيز على الخدمات والبناء». سألته أخيرا: «كم هي نسبة أن تترك إيران الفرصة للحكيم والصدر أن يتحالفوا معكم بمعزل عن خصمهم وخصمكم نوري المالكي؟» أجاب بابتسامة ساخرة: «2%، إيران لن تسمح لهم بالتحالف معنا»، قلت له: «حسنا، كم هي نسبة أن يتمكن تكتل الحكيم والصدر في أن لا يصغي إلى إيران ويتحالف معكم؟»، أجابني: «1%»!

أرجو أن يكون محدثي في جوابه الأخير مجرد ساخر وعابث، وإن كان جادا أرجو أن يكون مخطئا، ففي النهائية لا مصلحة من الإبقاء على التخندق الطائفي في العراق. لا علاوي ولا المالكي، العراق شراكة بين السنة والشيعة والأكراد، يجب العلو على هذه النعرات والانتماءات، العلو إلى هامة العراق نفسه.

نعم هي انتخابات فارقة في كل شيء، وقد نوهت في بداية المقال بمفارقة أن يكون الحل العلماني الوطني هو خشبة الخلاص للسنة العراقيين بمن فيهم أحد قادة «الحزب الإسلامي» طارق الهاشمي، وهذا أمر أثار انتباه مثقفين إسلاميين خلص مثل راشد الغنوشي وياسر الزعاترة فكتبوا محاولين التأويل والفهم، ولكنه أمر يستحق نقاشا مفردا في مقالة أخرى.

أخيرا أود أن أشير إلى أثر هام من آثار هذه الانتخابات على مزاج الشيعي العربي بشكل عام، بعد أن تحدثنا عن مزاج السني العربي، فالرسائل التي يتلقاها الشيعي اللبناني أو الخليجي من وراء اصطفاف السنة خلف مرشح شيعي علماني، وأيضا تراجع أنصبة الأحزاب الأصولية الشيعية، خصوصا إذا ما أخذنا بالاعتبار كيف قدم المالكي نفسه بوصفه معتدلا رجل دولة وقانون، فإن كل ذلك يشيع نوعا من الشعور بإمكانية الخروج من ثنائية: سني - شيعي في العالم العربي إلى أفق مفتوح للجميع، المواطن يختلف فيه مع المواطن الآخر على أساس سياسي مدني لا علاقة له بحتمية المحاكمات الطائفية، أنه شعور مهم جدا، ربما أثمن من كل هذه الانتخابات، لأن هناك أحزابا وتيارات لا تعيش إلا في مناخ التخويف الطائفي حتى تسحب جمهورها خلفها باعتبارها السد الحامي من أحقاد الآخرين الطائفية. لذلك فإن رعاة التخندق الطائفي السياسي هم أكثر الخاسرين من شيوع مناخ كهذا في العراق، خصوصا أن العراق هو المنبع وهو «مهد الإسلام الشيعي».. هكذا قال لي سياسي لبناني يرقب أثر هذه التحولات في العراق على قواعد حزب الله والحالة الشيعية في لبنان.

ما زلنا في خضمّ الحدث الأكبر في العراق، ولم تكتمل ملامح الوجه العراقي الجديد، ولكنه من المحتم أن يكون وجها جديدا، إما وجها صبوحا يعيد حلم العراق القديم، وإما وجها متقيحا يذكّرنا بكابوس التتار وما صنعوه في العراق.

[email protected]