دعوة الهاشمي لتعريب الرئاسة العراقية.. المصلحة الاستراتيجية تحت خيمة المواطنة

TT

ما الذي قاله نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي؟ قال إن العراق يحتاج رئيسا عربيا. وما المشكلة في هذا القول؟ المشكلة في العقليات التي اعترضت لا في القول أو طريقة تفكير صاحبه. من حق الهاشمي أن يعبّر عن رأيه، فالتعبير عن الرأي حق مكفول له دستوريا باعتباره مواطنا عراقيا. وهو واجب مطلوب منه باعتباره سياسيا له خبرته ومسؤولا في الدولة له تجربته ينتظر منه الشعب أن يقول له أين تكمن مصلحة البلاد. لم يقل الهاشمي إن العراقيين من غير العرب لا حقّ لهم في الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية، بل قال إن مصلحة العراق في استعادة وحدة شعبه ذي الغالبية العربية ومكانته في العالم العربي تستلزم أن يكون الرئيس المقبل عربيا.

نعم، صدق الهاشمي. من حق العراق علينا من الآن فصاعدا أن نفكر في مصلحته قبل مصالح مكوناته. فمصلحة العراق هي مصلحة الجميع، لكن مصلحة المكون ليس بالضرورة أن تكون مصلحة للعراق أو لبقية المكونات. والحق أن الهاشمي كان منسجما مع نفسه حين نادى بمصلحة العراق في رئيس عربي إذ كانت دعوته متوائمة مع شعاره الذي رفعه يوم خرج من تحزبه إلى فضاء الوطن وأعلن ضرورة السعي لإنجاز التحول بالعراق من «دولة مكونات» إلى «دولة مواطنة».

مصلحة العراق كله بما فيه كردستان في رئيس عربي مقدمة على ما يُعتقد أنه مصلحة للكرد في أن يجددوا حيازتهم لرئاسة الجمهورية للمرة الثالثة ليكرسوا نهاية التهميش الذي مورس ضدهم سابقا، لا سيما أن هذا الهدف قد تحقق بعد أن أخذ السيد الطالباني فرصته في رئاسة البلاد لمرتين سابقتين الأولى في الحكومة الانتقالية عام 2005 والثانية في الحكومة الدائمة عام 2006. كما تحققت بتولي كردي للمنصب مصلحة العراق في التأسيس لتداولية السلطة بين العراقيين بغضِّ النظر عن هوياتهم القومية. إذن، لقد تحررنا من العقدة، وحان وقت التفكير الواقعي من أجل العراق، والإيفاء باستحقاقات وطنية ملحَّة.

لم يخرج الهاشمي في دعوته على مبدأ المواطنة الذي نادى به بل تحدث تحت خيمة المواطنة وفي إطارها. إلا إذا كان المعترضون يعتقدون أن المواطنة لا تشمل عرب العراق! إذا كان الأمر كذلك فهذا بحث آخر.

لقد جاءت دعوة الهاشمي في سياق إدراك متقدم لمفهوم المواطنة يخرج به من الركود والجمود والحرج في التعامل معه وتوظيفه لصالح البلاد إلى الحيوية والديناميكية والثقة بالنفس. فما دمنا واثقين من أننا كعراقيين متساوون جميعا أمام القانون، وأن لا فرق بين عربي وكردي وتركماني، مسلم أو مسيحي، إلا بقدر حبه للعراق وسعيه في خدمته، وأن لا تمايز بين المواطنين إلا على أساس القدرة على خدمة الوطن، إذن لماذا نجد حرجا في الجهر بمصلحة العراق وتحديد مكامنها حين يتعلق الأمر بقومية شاغل منصب حساس مثل رئيس الجمهورية؟!

إن الانتقال بالدولة العراقية إلى حالة منسجمة مع مقتضيات المواطنة الحقة يستوجب السعي للانعتاق من نموذج عام 2006 في تقاسم مناصب الرئاسات الثلاثة على أساس المحاصصة الطائفية. المطلوب اليوم هو التحول من المحاصصة إلى تكافؤ الفرص، ومن معيار الهوية المذهبية أو القومية في اختيار المرشح إلى معايير الكفاءة والنزاهة واحتياجات المنصب والشروط الموضوعية التي يجب توافرها لضمان نجاح المرشح في تأدية مهماته الوظيفية.

إن اعتبار العراق دولة فاشلة من قِبل المنظمات الدولية، والتدهور الذي تعانيه البلاد على صعيد الاستقرار السياسي الداخلي والأمن والاقتصاد والتماسك الاجتماعي والسياسة الخارجية إنما هو الحصاد المر لتجربة المحاصصة السيئة التي تم اعتمادها بعد 2003 وتم تكريسها واقعا سياسيا وسلطويا عند تشكيل مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية عام 2006.

واليوم يراد للمحاصصة - كما يبدو - الديمومة والاستمرار، وأن يعاد إنتاجها في شكل احتكاري ونهج استحواذي يستند إلى عقلية استئثارية، ويظهر علينا من السياسيين من لا يجد حرجا في مواصلة توجيه رسائل مزعجة للرأي العام في داخل العراق وخارجه مفادها أن منصب رئيس الجمهورية محسوم للمكون الكردي، أو الادعاء أن ليس هناك من هو أجدر أو أكثر أهلية لرئاسة العراق سوى شخصية سياسية واحدة مع كل التقدير لها كانت أخذت حقها وأدت دورها في خدمة العراق لولايتين رئاسيتين، واحدة انتقالية استمرت قرابة سنة، والثانية دائمة استمرت دورة برلمانية كاملة. ترى هل ينسجم مثل هذا الخطاب مع مفهوم دولة المؤسسات والمواطنة وتداولية السلطة، لا سيما وأن المادة 72 (أولا) من الدستور العراقي تنص على «تحدد ولاية رئيس الجمهورية بأربع سنوات، ويجوز إعادة انتخابه لولاية ثانية فحسب»، وذلك للحيلولة دون تعطيل تداول السلطة وانطفاء فاعلية الحياة الديمقراطية والتأسيس للاستبداد والديكتاتورية. الأمر الذي يعني عدم جواز إعادة انتخاب الرئيس الطالباني لولاية ثالثة. وهذه ملاحظة دستورية مهمة كان يفترض بالكُتّاب الذين تصدوا لمناقشة موضوع منصب الرئيس أن يأخذوها في نظر الاعتبار وهم يتكلمون عن مرجعية الدستور وضرورة الالتزام به.

ليس أسوأ من المحاصصة أو تكريسها إلا السعي المحموم للاحتكار ومنع التداول حتى داخل منظومة المحاصصة ذاتها. ومثال ذلك الإصرار على أن يكون الرئيس كرديا ورئيس الوزراء شيعيا ورئيس مجلس النواب سُنّيا، حصرا ودون تغيير أو تبديل. قد يدافع البعض عن المحاصصة باعتبارها خطوة على الطريق أو وسيلة لتلبية حاجة مرحلية للبلاد أو شرا لا بد منه أو دواء مرا للتخفيف من سطوة مرض عضال، ولكن كيف يمكن تبرير السعي لتحويل المحاصصة إلى أداة لاحتكار المناصب وحصرها لمكونات اجتماعية معدودة وقصرها على أحزاب محددة داخل تلك المكونات واختزالها في ذوات شخصيات معينة داخل تلك الأحزاب؟!

وحين يخرج من ينادي بكسر هذا الاحتكار وتفكيك هذه المنظومة المضرة وإنهاء هذا الاختزال للمصلحة الوطنية يتم اتهامه بالشوفينية والموقف العنصري ضد الآخر المخالف قوميا وانتهاك الدستور والحنث باليمين! كما حصل مع الهاشمي حين دعا إلى تعريب منصب الرئيس كي يتمكن العراق من العودة إلى محتضنه العربي واستعادة دوره وحضوره في هذا المجال الحيوي التاريخي للدولة العراقية.

نحن لا نفهم لماذا هذا الكيل بمكيالين لدى بعض أصحاب القلم، فعندما يتحدث سياسيون كرد بأن المنصب يجب أن يكون من حصتهم لولاية ثالثة على التوالي لا يعد طرحهم شوفينيا، ولكن المقاربة تكون شوفينية عندما يطرح الهاشمي بديلا لهذا الاحتكار الحزبي الفئوي للمنصب!

لقد تكلم الهاشمي في صلب مفهوم المواطنة حين نادى برئيس عربي للعراق، ولا ندري كيف فهم البعض دعوته على أنها دعوة عنصرية أو إساءة إلى أهلنا الكرد أو انتقاصا من خصوصيتهم القومية المحترمة! كيف نفسر هذا الاستمساك بالمحاصصة الاحتكارية والعض عليها بالنواجذ بهذه الطريقة؟! ترى هل هناك أجندة خفيّة لإبقاء العراق أسيرا للمحاصصة لتحكم البلاد بذات الوجوه وفي نفس المناصب، لتكريس الضعف وإدامة التدهور ومأسسة التراجع؟!

للأسف، فإن واحدة من مشكلات العراق البنيوية اليوم هي السكوت عن تشخيص المعضلات الحقيقية، والقبول بالخطأ وتبريره. الجميع في النخب السياسية العراقية يعلم أن جزءا أساسيا من مأزق العراق الكبير هو التباس هويته، وعدم إشباع حاجته إلى الانتماء، فالدول مثل الأفراد تحتاج لإشباع حاجتها إلى الانتماء إلى جماعة أو سياق، والشعور بالتقدير وتحقيق الذات في إطار هذا الانتماء. ثمة مناصب حساسة في هيكل الدولة تعكس هويتها أمام العالم، ويأتي في مقدمة هذه المناصب، منصب رئيس الجمهورية. هذه الحقيقة لم تتم مراعاتها بعد 2003، بل تم عن قصد وعمد إدارة الظهر لها والعمل بكل ما يعاكسها. ولذلك حصل ذلك الانفصام في عرى العلاقات العراقية - العربية، فخسر العراق عمقه الاستراتيجي، وأضاع العرب العراق، وأي بلد أضاعوا!

وعليه فلا بد اليوم من استراتيجية تصحيحية لإنهاء المحاصصة الاحتكارية، على أن لا يتم ذلك من خلال مناقلة رموز المكونات أو ممثليها بين المناصب، ولكن عن طريق نقل بوصلة اختيار الشخصيات للمناصب من مصلحة المكون إلى مصلحة العراق، وعليه تكون مناداة الهاشمي بحصول عرب العراق على منصب رئيس الجمهورية في وقتها وفي مكانها حين جاءت - كما تشير حيثياتها - في إطار استشعار بوصلة الاختيار للمصلحة الوطنية الكامنة، لا في سياق منازعة فئوية عدمية بين المكون العربي والمكون الكردي على سلطة أو جاه أو منصب.

وهنا نكرر القول: نحن معشر عرب العراق، لا ضغينة ولا تعالي ولا موقف عنصريا ضد أهلنا كرد العراق، ولا تَحفُّظ على تولي عراقي كردي أيَّ منصب في الدولة العراقية. بل هو حقهم الدستوري تحت خيمة المواطنة ونحن على ذلك من الشاهدين. ومظلومية الكرد حقيقة تاريخية لا ننكرها، وندعم كل ما من شأنه تعويضهم وإنصافهم كي يختاروا البقاء معنا شركاء في هذا الوطن بملء إرادتهم لا بالإملاء عليهم، ونحن في ذلك لسنا متفضلين عليهم ولا مانّين، بل نتبرأ من كل أذى وقع عليهم باسمنا في يوم من الأيام. ونعتذر عن كل الأخطاء والخطايا التي وقعت عليهم باسم «العروبة». وكردستان الغالية وتجربتها الناجحة هي جزء من الذات الوطنية العراقية التي نسعى بكل جهدنا لحمايتها وتطويرها لتكون علامة مميزة في صورة العراق المشرقة وشاهدا على نمو وتطور الحياة الديمقراطية في بلدنا.

أما في ما يتعلق بمنصب الرئيس، فقد أصاب الهاشمي في تشخيص المعضلة، وذهب مباشرة إلى حيث تكمن المصلحة الوطنية العليا، وهو بذلك يقدم نموذجا متفوقا للتفكير السياسي الاستراتيجي الناضج، فكلما ازداد السياسي نضجا ازداد وضوحا وجرأة، وسعيا وراء مصلحة بلاده بلا قيود أو حرج. وصراحة الهاشمي في طرح رأيه وتبيان أسبابه تدل على أنه لا يقصد به الإساءة إلى أحد، إذا قال: «نريد عربيا» ولم يقل: «لا نريد كرديا». وهي دليل على تجاوزه لكل العقد القومية والدينية والمذهبية، إذ تساوى لديه العربي والكردي والتركماني، فاتجه تفكيره إلى تحديد من منهم سيكون تنصيبه أكثر خدمة للعراق في هذه اللحظة التاريخية الحساسة. لقد أكد الهاشمي بدعوته أنه خرج من التخندقات الطائفية والفئوية إلى فضاء الوطنية الحقة، ثم بدأ يبني مقاربته السياسية في رحاب العقلانية والواقعية والتفكير الوطني الاستراتيجي السليم.

كانت هذه كلمة حق لا بد أن تقال من كاتب عراقي محب لوطنه ولجميع أبناء شعبه وفي مقدمتهم الكرد، تأمَّل في ما نشره الإعلام من رأي ورأي آخر حول هذا الموضوع. كما تأمَّل بدقة رؤية الهاشمي حول القضية الكردية وتجربة كردستان والمطروحة في «العقد الوطني العراقي» الصادر عام 2007. وكان عليه بعد ذلك أن يقول كلمته لعلها تكون إسهامة متواضعة في إيقاد شمعة في ليل العراق الذي طال.

* كاتب وسياسي عراقي