قبل وصول «الأوتوبيس» إلى محطته الأخيرة!

TT

ظللت لفترة طويلة أبلغ زوجتي عند خروجي من المنزل بأنني ذاهب للسهر مع الشباب، وحينما فاض بها الكيل ذات مرة تساءلت ساخرة: عن أي شباب تتحدث؟!

يومها أحسست لأول مرة بأنني وصحبي قد غادرنا محطة الشباب منذ زمن بعيد، وأن زوجتي تلعب معي دور «الكمساري» المصري في «أوتوبيس» النقل العام القاهري، حينما يرفع عقيرته إلى آخر مداها ليبلغ الركاب باقتراب الحافلة من محطتها الأخيرة، ليلتها فقط رحت أتفرس في وجوه رفاقي مليا لأكتشف ما لم أتوقف عنده من قبل، فتلك الوجوه الشابة التي بدأت معها رحلة العمر قبل سنوات بعيدة، نالت منها عوامل التعرية فاشتعلت رؤوسها صلعا، وجلهم يحتاج اليوم إلى «عمرة» يشارك فيها منتخب من الأطباء في مختلف التخصصات باستثناء أطباء النساء والولادة.

تلك مقدمة للقول بأن العمر يمكن أن ينسل دون أن نشعر به، فخداع المرايا أحيانا لا يوحي لك بأن تمسح تجاعيد وجهك من المرآة، فالزمن المرتشي بالبخور والعطور يخادعك أيضا، ويطلب منك أن تسدل الستائر كي لا ترى شيخوخة الشمس، فرغم تقسيم علماء النفس المراحل العمرية إلى محطات مثل: المراهقة، منتصف العمر، الستين «أو التقاعد» فإن منّا من يقفز هذه المحطات دون أن يشعر بها، ومنّا من يحمل جميعها معه إلى شيخوخته في خلطة عجيبة تضم شيئا من شقاوة الطفولة، وجموح المراهقة، وتوترات منتصف العمر.

وأذكر لشيخنا علي الطنطاوي حديثا قال فيه: «حينما كنت طفلا كنت أرجئ أمورا كثيرة إلى مرحلة الشباب، وحينما غدوت شابا أرجأتها إلى سن الأربعين، ومن بعدها إلى الخمسين، ثم الستين، وهكذا»، ففي كل مرحلة عمرية يشعر المرء أن ثمة متسعا من الوقت قبل أن يعلن «الكمساري» وصول «الأوتوبيس» إلى المحطة الأخيرة.

هناك مثل إنجليزي يقول: «إن عمرك كما تشعر»، ولما كانت مسألة الشعور مقدورا عليها لدى الكثيرين، فإنك كلما توغلت في صحاري العمر يزداد إيمانك بأن الإنجليز هم سادة الحكمة، وبالنسبة لكاتب هذه السطور لم يجد نفسه مضطرا قط للتعامل مع مسألة الأرقام في تحديد العمر، فأمه تقول: «إنه أكبر من بنت الجيران بعام، أصغر من ولد الجيران بعام»، ومن حسن حظه أن لا ولد الجيران يعرف تاريخ مولده ولا بنت الجيران، فالتاريخ في ذلك الزمان لم يكن يتجول في الأزقة والحارات، ولا يهتم بغير مواليد الأعيان، ولم يكن أبوه من هؤلاء، كان ملاحا بسيطا يجوب البحار، شراعه غيمة بيضاء يسكنها الريح والشوق والموال.

[email protected]