العالم الثالث وأدلجة الفساد

TT

الفساد ليس مقصورا على دولة، أو جنس، أو دين. بل هو حالة مرضية تنموية تواجهها كافة دول العالم من دون استثناء. سواء على مستوى المؤسسات العامة أو مستوى القطاع الخاص، خلافا لما هو سائد من تعريف الفساد بأنه: استخدام السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة. والفساد، من حيث المبدأ وبصرف النظر عن حجمه، لا يختلف بالنسبة لصغار الموظفين عما هو عليه عند الكبار. ففساد الموظفين الصغار يلحق الضرر بالجودة، وبالخدمات. أما فساد الكبار فإنه يؤثر على اتخاذ القرار، وعلى الخطط والاستراتيجيات العامة. ومحاربة فساد الكبار يقلل من فرص الفساد لدى الصغار.

ورغم أن ممارسة الفساد من قبل المسؤولين يعتبر جريمة على مستوى كل دول العالم، فإن الدول المتقدمة لا تعتبر التعامل بالفساد مع مسؤول أجنبي خارج دولها جريمة، بل إن هناك مقولة شائعة، يتم تداولها في الدول المتقدمة وهي: «إن علينا، عند التعامل مع دول العالم الثالث، أن نتبع طريق هذه الدول في إتمام الصفقات، فالفساد جزء من ثقافة هذه الدول». وهذه النظرة غير المنصفة والمؤدلجة بحق شعوب العالم الثالث وثقافاتها، أمر غير مقبول في التعامل بين الشعوب. فقد نتفق مع من يقول بأن الفساد هو أكثر انتشارا في دول العالم الثالث نتيجة غياب الأنظمة والقوانين الصارمة لمكافحته، إلا أن القول بأن الفساد هو نتاج ثقافة هذه الدول، هو قول يمثل إحدى صور الأدلجة للفساد نفسه، وإخراجه من الممارسات الفردية الشاذة ليشمل الديانات والعادات الاجتماعية لهذه الدول. إن انتشار الفساد في دول العالم الثالث بصورة أكبر مما هو عليه في بقية أجزاء العالم، لا يعني أن الفساد جزء من ثقافة تلك الشعوب، أو ناتج عن خلفيتها الاجتماعية والتاريخية. فمعظم ثقافات دول العالم الثالث (وفي مقدمتها الدول الإسلامية) تحرم مثل هذا الفعل، وتجرم صاحبه. وفي القرآن الكريم «.. وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ». وتجاهل ذلك من شأنه أن يرسخ أسباب الفساد الحقيقية، ويساعد على انتشارها، واتساع أثرها. إن حكومات العالم الثالث ومنظمات المجتمع المدني فيها، مطالبون بسن قوانين صارمة لمكافحة الفساد في دولها. كما أن المثقفين في هذه الدول، مطالبون بأن لا ينساقوا، وبغباء سياسي، خلف تلك التقارير المسيسة، التي تصدرها بعض المنظمات الغربية بحق دولهم وثقافاتهم. وذلك من خلال التسليم الأعمى بتلك التقارير وترديد وتضخيم نتائجها في وسائل الإعلام، أو من خلال الإذعان لتلك المحاكمات الإعلامية العلنية، من قبل وسائل الإعلام الغربية، لبعض مواطني هذه الدول وتقديمهم للرأي العام العربي والغربي على أنهم رافعو راية الإصلاح والتغيير في بلدانهم. وهم الذين لا يرون الإصلاح في بلدانهم إلا من خلال جلد الذات وتبني تلك الرؤية المؤدلجة في حق بلدانها وشعوبها. وكما نحن مطالبون بالتصدي لتلك الأدلجة الغربية للفساد، فنحن أيضا مطالبون بالتصدي لنوع جديد من الفساد الطارئ على ثقافاتنا ومجتمعاتنا، ألا وهو الفساد المؤدلج طائفيا أو عقائديا من قبل بعض أبناء هذه الدول نفسها، عندما يسوغ البعض الفساد داخل دولهم، لخدمة أجندات طائفية أو عقدية، لتنظيمات محلية أو إقليمية أو دولية، على حساب أمن واستقرار بلدانها. وكما أن الفساد المالي الصرف يمثل خطرا على اقتصاديات الدول، فإن الفساد المالي المؤدلج طائفيا أو عقديا، ولصالح جهات خارج الدولة، يظل هو الأخطر على أمن واستقرار دول العالم الثالث.