أزمة الهوية مشكلة تواجه نهضة الصين

TT

لدى إقامتي في اليابان في بداية التسعينات، شرع أهلها في البحث عن هويتهم. كانت اليابان حينها قد تحولت إلى قوة اقتصادية عظمى، لكن سياساتها لم تواكب هذا التقدم، فلم تحسن استغلال هذا الثقل الاقتصادي الذي تتمتع به.

اعتقد البعض أن على اليابان أن تصبح لاعبا على الساحة الدولية من دون تدخل في اللعبة العالمية، وقبول النظام الدولي كما أوجده الغرب. لكن فئة أخرى من اليابانيين رأت اليابان لما هو أكبر من ذلك، فدعوا إلى تحدي هيمنة واشنطن على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ونقض عرى التحالف الأمني الأميركي الياباني، وصياغة سياسة خارجية ذات طابع مختلف. أو بعبارة أخرى، أن لا تعني الحداثة أمركة الهوية الثقافة الآسيوية القديمة.

ربما يكون الركود الاقتصادي، الذي عانت منه اليابان خلال السنوات الماضية، قد خفف من حدة هذه الطموحات، بيد أن دعوات مماثلة طفت على السطح خلال الشهر الحالي، خلال وجودي على مدى تسعة أيام بين مفكرين صينيين. وعلى غرار اليابان، قبل عقدين، تخطت المعجزة الاقتصادية الصينية مرحلة نضوج فن إدارة الدولة. فيقول سون تشه من جامعة تسينغهوا في بكين إن الصين اليوم تستدعي إلى الأذهان البدايات الأولى لظهور ياو منغ في دوري كرة السلة للمحترفين عندما كان على ثقته بأنها تتوافق مع طوله البالغ 7 أقدام و6 بوصات. وباتت الصين اليوم، أشبه باليابان قبل عقدين من الزمن، تبحث عن هويتها.

فيمضي تشه قائلا، خلال فترة الثمانينات، رأى المفكرون الصينيون في الغرب نموذجا، «فكنا نرى القمر في الولايات المتحدة يتلألأ أكثر»، وأقامت أحداث ميدان تيانانمن إلهة للديمقراطية، طولها ثلاثون قدما، «استلهمناها من تمثال الحرية». لكن الحرب في العراق والأزمة المالية العالمية وتعثر جهود إعادة إعمار ولاية نيو أورليانز في أعقاب إعصار كاترينا أسهمت جمعيها - سواء أكان ذلك صحيحا أم لا - في تشوه الصورة الأميركية في الصين. وقد تعلمنا من الاتحاد السوفياتي الذي انهار. وتعلمنا من اليابان التي انهارت وتعلمنا من الولايات المتحدة التي انهارت هي الأخرى.

في اليابان أبدت الحركات القومية رغبة متجددة في الاستفادة من التاريخ. فتحول تاكاموري سايغون، محارب الساموراي الذي تمرد ضد انفتاح الدولة على الغرب في القرن التاسع عشر، مادة ثرية لسلسة من الكتب التي باعت حتى الآن 8 ملايين نسخة. وفي الصين وجدت الأفراد يتحدثون عن عمل البروفسور يان تشيتونغ، أستاذ آخر من جامعة تسينغهوا، الذي ترتبط كتاباته بتطلعات الصين الحديثة تجاه فلسفتها القديمة. ففي النسخة الإنجليزية لكتابه، الذي يحمل مقدمة من هنري كيسنجر، يرسم يان ما يمكن أن يطلق عليه سياسة خارجية كونفوشيوسية.

بدت بعض العادات التي تحدث عنها يان أمرا مطمئنا من منظور غربي. فنقل عن الفيلسوف تشون تسي الذي عاش في القرون السابقة قوله إن على القوى العظمى أن تحترم بعضها بعضا، إذا ما رغبت في الأمن. علاوة على ذلك يقول يان إن الأعراف الصينية تستلزم وجود دولة قوية لمساعدة الدول الضعيفة. وإذا ما هدد القراصنة مواطني دولة تفتقر إلى القوة البحرية اللازمة للرد عليهم، يلزم الدولة التي تمتلك قوة بحرية فرض النظام في المحيطات. وإذا كان ذلك يعني تحول الصين إلى شرطي عالمي فربما تجد نهضتها لذلك ترحيبا.

على الرغم من هذه الطروحات الجيدة، فإن بعض ما خلص إليه يان مستفز بعض الشيء. فيشرح على سبيل المثال أن التقاليد الصينية ترفض فكرة تساوي قيمة البشر. فلا قيمة لحياة الشخص غير المتمدن - الهمجي - ومن ثم، فإن الصين لا ترى ضرورة ملحة لمحاربة أزمات صحية عالمية مثل مرض الإيدز، فغير المتمدينين لا يستحقون السعي لإنقاذهم.

ولدى سؤاله عما إذا كانت الصين سترغب في ذلك الوقت في مساعدة غير المتمدينين على إقامة دولة خاصة بهم؟ يؤكد يان على رفضه لذلك، على العكس من التعاليم المسيحية، حيث جاهدت البعثات التبشيرية للقيام بمثل هذا التحول. وفق العقيدة الكونفوشيوسية، لا يلزم المعلم أن يقوم بالتدريس للتلاميذ، ومن ثم فإن الدول غير المتمدينة موضع ترحيب للتعلم من النموذج الصيني، لكن إذا لم يرغبوا فهذا شأنهم. لذا ستقوم الصين بالتجارة مع دول - مثل زيمبابوي وبورما والسودان ـ لكنها لن تحاول تغييرها.

ربما لا تنبئ أفكار أحد الأساتذة بالضرورة عن السياسة الرسمية للدولة. لكن كما كانت بريطانيا والولايات المتحدة من قبلها، لا يمكن للصين أن تستثمر وتنشط على صعيد التجارة العالمية ما لم تعرض قوتها عالميا. ومع تطوير مواطنيها وشركاتها شبكات عمل حول العالم سترغب حكومتهم في رعاية مصالحهم. الثناء الذي سمعه يان من أقرانه أشار إلى أن أفكاره تملأ فجوة هامة؛ إذ فقد الصينيون إيمانهم بالشيوعية، لكن غالبية الأساتذة الذين تحدثت معهم لم يبدوا رغبة في اعتناق الديمقراطية الغربية. لذا فإن الصين تبحث عن مستقبلها في ماضيها، عبر إعادة إحياء الماضي الذي دفنته الشيوعية.

نتيجة لهذه العملية فإن الأفكار غريبة الأطوار ستواصل صعودها إلى السطح، ونتيجة للنزاعات الحتمية على العملة وحرية الإنترنت وغيرها، سيعمد بعض الأميركيين إلى التصرف بغضب. لكن الخيار الذكي بالنسبة للغرب هو إفساح المجال أمام الصين في رحلة البحث عن الذات. النهضة الصينية أمر حتمي، ولذا على الصينيين أن يقرروا من هم وما يرغبون فيه. وربما يتبين لهم أن تبني النموذج هو الأكثر ملائمة لهم.

* خدمة «واشنطن بوست»