أخيرا الحل المفروض!

TT

تلقفت وسائل الإعلام العربية، بنهم شديد وتبنٍّ يصل حد الإفراط، تحليلا نشرته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، تضمن أقوالا لساسة إسرائيليين يحذرون فيها من قيام إدارة أوباما بفرض حل نهائي للصراع العربي الإسرائيلي، بعد يقين هذه الإدارة من استحالة توصل الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي إلى حل متفق عليه.

ولعله من المنطقي تماما أن يرحب معظم العرب بفكرة كهذه.. فهي أولا.. تدخل الولايات المتحدة كطرف عملاق في حل عجز العرب عن فرضه على مدى عقود.. فتريح وتستريح. وهي ثانيا.. تنقل معارضة الحل من مجال الاختلاف المحلي - فلسطينيا فلسطينيا.. أو عربيا عربيا - إلى مجال أوسع وأهم، إذ تصبح اللعبة مع أميركا.. ومن يقدر آنذاك على الإفشال؟!

غير أننا كعرب يجب ألا ننظر للأمر كما لو أنه حقيقة واقعة، نجتهد في إظهار مزاياه والتغاضي عن مثالبه، بل لا بد من التدقيق أكثر فيما إذا كان الأمر حقيقيا من أساسه، أم أنه (وما دامت المصادر الإسرائيلية صاحبة قصب السبق في إطلاقه) نوع من أنواع التخويف والهجوم المعاكس لاحتواء أزمة حقيقية بين واشنطن وتل أبيب.

وفق نظرية المؤامرة التي نحبها تقليديا كمنهج للتحليل، فكل شيء جائز، أما وفق المعطيات الموضوعية للأزمة الأميركية الإسرائيلية فإن أمر الحل المفروض، يحتاج إلى نقاش جدي.. فهو ضرورة ملحة.. بل خيار لا مناص من الذهاب إليه، بعد تجربة السلام الفلسطيني - الإسرائيلي بكل مراحلها أو فصولها.

لقد تراجعت التجربة. وتحولت إلى عكس ما كان مرجوا منها، حين تصرف طرفا التفاوض رغم تفاوت القوة بينهما كما لو أن كل طرف يملك حق الفيتو على كل ما لا يناسبه، وحق الفيتو في حالة كهذه لا يمارس برفع اليد أو على موائد المفاوضات، وإنما على الأرض. حين اندلعت الانتفاضة المسلحة في أوج العملية التفاوضية ومباشرة بعد محاولة الحسم الجدية في كامب ديفيد الثانية وتضاعف الاستيطان والقمع في ذات الفترة.

إن دراسة هذه الظاهرة، وقراءة آلاف محاولات تطويق الفيتو المتبادل على طاولة المفاوضات ومن حولها، تدفعان منطقيا إلى التفكير في حل مفروض، دون إلغاء الحركة السياسية بين الجانبين.. كي يتم التوصل إلى نقاط تقارب في المواقف لا تجعل الحل المفروض شبيها بالولادة القيصرية، بل ردما للهوة ولو بالتوريط الإيجابي والسلس.

ثم إن محاولة السير بهذا الاتجاه قد تتعثر إذا لم يُحسب حساب لباقي أعضاء نادي التسوية الشرق أوسطية، وفي مقدمتهم بالطبع سورية، ذلك أن تجارب الأمس، التي اعتمدت على مبدأ تجزئة جبهات الصراع لتسهيل أمر الحل، يبدو الآن أنها لم تكن نموذجية.. إن التجزئة الكاملة مثل الاندماج الكامل، لها محاذيرها وقدراتها الفعالة على التعطيل، لذا لا مناص من إيجاد صيغة وسط، لا تندمج فيها المسارات، ولكن تتوازى وتتفاعل وتنتج..

إن تجربة المسار السوري مع إسرائيل، منذ عهد المغفور له الراحل حافظ الأسد، ونظيره صاحب الوديعة رابين، إلى عهد المفاوضات غير المباشرة عبر الوسيط التركي، تثبت أنه لا يزال في القوس منزع، وأن إمكانية توظيف المرونة السورية في سياق تهدئة الأوضاع في المنطقة، وخلق مقومات دعم لنجاح العمل على المسار الأهم والأخطر وهو المسار الفلسطيني، تبدو واقعية وعملية تماما.

إن ما كان ينقص العملية السياسية الشرق أوسطية، في كل فصولها السورية الإسرائيلية والفلسطينية الإسرائيلية، هو الحسم الأميركي، حين كانت الأمور تصل إلى نقطة قريبة من الحل، إلى جانب التكيف الأميركي التقليدي مع برامج وسياسات وحسابات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، التي كانت لكل منها رؤية مستقلة عن الأخرى في أمر السلام، مما أضعف القدرات الأميركية وجعل الدولة العظمى في غالب الأحيان صاحبة دور فني، قد يصلح للإبقاء على كثير من الخيوط في يدها، دون أن يفضي ذلك في نهاية المطاف إلى حلول متبلورة ومن النوع القادر على الصمود.

ولكي يكون هذا التحليل واقعيا وليس رغائبيا، لا بد من العودة بالذاكرة إلى الوراء.. حين رفع في واشنطن أيام بوش - بيكر شعار «أنقذوا إسرائيل من نفسها»، كان شعارا من إدارة جمهورية خططت ونفذت حربا كونية محدودة المساحة الجغرافية، وما إن أسقطت في الانتخابات المفترض منطقيا أن تنجح بها، حتى عادت النمطية الأميركية للعمل بعيدا عن هذا الشعار، وما حدث في كامب ديفيد وطيلة ولاية بوش الابن أي على مدى ما يقارب خُمس قرن من الزمن هو الشاهد الأصدق على ذلك.

إن بوسع إدارة أوباما المضي قدما في العمل من أجل حل معضلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والعربي الإسرائيلي كذلك، ولو جمعت مصادر قوتها في هذا السياق، فستجد نفسها قائدة العالم كله في هذا الاتجاه، ومعها نصف إسرائيل على الأقل.

لقد وفر وزير داخلية إسرائيل مطلق الرصاصة الأولى في فضيحة بايدن، بغبائه وطيشه وسوء تقديره، مسوغا معنويا لإدارة أوباما كي تمسك التطرف الإسرائيلي من يده الضعيفة، وكي تمسك في ذات الوقت بحجج منطقية تجعلها خصما للتطرف المغامر فقط، وليس للواقعية السياسية.

إن المعوق الفعال للجهد الأميركي هو التردد، ومنح الزمن فرصة تجنيد المزيد من قوى الرفض للتسوية الممكنة.. داخل إسرائيل وخارجها.. وداخل الولايات المتحدة وعلى مستوى العالم بأسره. خلاصة القول.. إن الحل المفروض، وإن كان هو الأجدى لو خدم جيدا.. إلا أنه يظل موضوع صراع داخلي في أميركا وإسرائيل وعلى مستوى العالم بأسره، إلا أن من يستطيع حسم الأمر بلباقة وذكاء وتصميم، هو إدارة أوباما التي يجب أن تنجح في إعادة الاعتبار للشعار القديم «احموا إسرائيل من نفسها».. واحموا المصالح الأميركية بالعقلانية وليس بالتطرف.

* وزير إعلام سابق وسفير فلسطين السابق لدى مصر