قبل مؤتمر القمة وبعده.. النظام العربي بين القدرة والعجز والمراوحة

TT

أحاطت بمؤتمر القمة العربية في ليبيا أجواء تشاؤمية قاتمة، ومن ضمن ذلك غياب شخصيات عربية كبيرة عن القمة مثل الرئيس المصري والملك السعودي. وغلبة لهجة التصعيد على خطابات الرؤساء، بحيث بدا الجميع وكأنما هم المعارضون الثوريون وليس الأنظمة الحاكمة. وانصراف الأنظار عن المؤتمر رغم وجود رؤساء المنظمات الدولية، ووجود النجم الساطع رئيس الوزراء التركي. والواقع أن العرب وجدوا في أردوغان الحل السحري والبديل السحري عن محمود أحمدي نجاد. فنجاد صار حضوره كفيلا بإثارة الانقسام، أما أردوغان فإن صراخه على إسرائيل لا يقل عنفا (باستثناء عدم التهديد بالإزالة!)؛ بيد أن خطاب حاكم دولة قطر ما كان أقل حدة هذه المرة من خطابات الثوريين العرب والإسلاميين خارج مقر المؤتمر من مثل حماس والجهاد الإسلامي.

والواقع أنه لا داعي لهذا العجز أو الثوران أو التظاهر بهما. فالمسألة الفلسطينية ليست هي المقياس لإبراز قدرات الأمة والنظام العربي. ويرجع ذلك إلى أن الدول العربية المعنية وافقت عام 1967 بعد الهزيمة على القرار رقم 242، الذي يعني اعترافا بإسرائيل من جهة، واستعادة الأراضي العربية المحتلة عن طريق التفاوض من جهة أخرى. وتكرر ذلك في القرار رقم 338 لعام 1973، الذي نص على وقف إطلاق النار، والاتجاه مباشرة إلى مفاوضات تفضي لمعاهدة سلام. وقد حصل ذلك كله من جانب مصر وسورية والأردن قبل زمن طويل من مبادرة الملك فهد (عام 1982)، ومبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز (2002)، اللتين كانتا في الحالتين محاولة للإخراج من المأزق؛ بعد خروج العرب التدريجي من الالتزام بالقضية الفلسطينية، وبخاصة دول الجوار، بل واتجاههم إلى فرض انقسامات على الفلسطينيين بحجج مختلفة نضالية بالطبع؛ وفي طليعة من حاول ذلك كل من ليبيا والعراق وسورية.

وإذا قلنا إن الدول العربية ما كان بمستطاعها مقاتلة إسرائيل بعد حربي 1967 و1973 بسبب موافقتها على قرارات دولية تمنع الحرب؛ فإنه يمكن القول من جهة ثانية إن إسرائيل التي وقعت أيضا على القرارات خالفتها كثيرا وكثيرا جدا. وقد حصل ذلك في الأراضي الفلسطينية المحتلة في الأكثر، لكن ضد لبنان أيضا، وأقل ضد سورية. والواقع مرة أخرى أن الفلسطينيين ما شاركوا في التوقيع على القرارات الدولية لأنهم ما كانوا قد صاروا طرفا شرعيا مثلا. واللبنانيون ما وقعوا على القرارات، لأنهم ما كانوا يعتبرون أنفسهم طرفا إلا في القرار 425 لعام 1979 الذي يطالب الإسرائيليين بالخروج من الأراضي التي احتلوها في لبنان. إنما الواقع ورغم الجبروت والتفوق الإسرائيلي أنه ما جرت حرب شاملة بين إسرائيل ومصر أو سورية أو الأردن بعد عام 1973. وقد ظهرت استراتيجية عربية جديدة تجلت في إقدار منظمة التحرير الفلسطينية على مكافحة إسرائيل من الأردن ولبنان أولا، ثم من الداخل الفلسطيني ثانيا. وبعد منظمة التحرير دعمت سورية الحركات الثورية الإسلامية مثل حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، وشاركها العراق في دعم حماس أيضا، والآن إيران كما هو معروف. وهكذا فإن الطرفين الإسرائيلي والعربي، ظلا تحت سقف القرارات الدولية، وما اندفع أحد الأطراف الموقعة على القرارين 242 و338 إلى حرب شاملة سواء انطلقت من إسرائيل أو من مصر أو من سورية أو من الأردن. وقد عمدت الدول العربية - سواء كانت من دول المواجهة أم لا - إلى شن حروب بالواسطة على الكيان الصهيوني، من طريق منظمة التحرير الفلسطينية، ثم من طريق الحركات الثورية الإسلامية. وردت إسرائيل بالحرب على هاتين الجهتين في مكان أو أمكنة الانطلاق؛ وبخاصة أن تلك الأطراف ما كانت موقعة على القرارات الدولية؛ وبالتالي فهي لم تخالفها! لكن ماذا لو قيل: إن إسرائيل خالفت القرارات الدولية بعدم الانسحاب من الأراضي الفلسطينية والأراضي السورية وباقي الأرض اللبنانية؟ الإسرائيليون يقولون إنهم وقعوا على «أوسلو» عام 1993 مع الفلسطينيين وانسحبوا من أكثر الأراضي المحتلة، لولا الانتفاضة الثانية، والخلاف على قضايا في الحل النهائي. وبالنسبة لسورية يقولون إن الانسحاب في القرار الدولي رقم 338 مرتبط بالوصول إلى معاهدة سلام، كما حصل مع مصر والأردن، وما أمكن الاتفاق مع سورية على ذلك حتى الآن. لكن مبادرة السلام العربية التي أطلقت عام 2002 من بيروت، يمكن أن تحل المشكلتين: مشكلة الانسحاب من الأراضي المحتلة، ومشكلة اعتراف سائر الدول العربية بإسرائيل، وليس دول المواجهة فقط. ما استعرضت هذه الإشكاليات كلها للتسويغ أو للمعذرة أو ربط العجز في القضية الفلسطينية بأمر معين هو القرارات الدولية. بل لأقول إن هناك وسيلة متاحة أمام العرب لمواجهة إسرائيل دونما تطرف أو تخاذل، وهو دعم منظمة التحرير الفلسطينية، وبخاصة الآن، حيث تواجه مسائل وإشكاليات الحل النهائي، وفي مسألة القدس بالذات. وقد حصل ذلك إلى حد ما عندما اجتمعت لجنة المتابعة العربية، وقررت إعطاء فرصة أربعة أشهر للتفاوض غير المباشر. ويستطيع العرب بعد ذلك الذهاب إلى المؤسسات الدولية لإرغام إسرائيل على تنفيذ القرارات الدولية التي خرجت عليها، كما يستطيعون بعد ذلك التصريح علنا بدعم حركات المقاومة بداخل فلسطين بالذات. وهكذا فإن تفويتا كبيرا في المسألة الفلسطينية لم يحصل، وإن كان قد حصل؛ فإنه حصل بطريقة تدريجية نتيجة الموافقة على القرارات الدولية منذ عام 1967، ونتيجة عدم إصرار المجتمع الدولي على إسرائيل أن تنفذ القرارات الدولية المتعلقة بالانسحاب من الأراضي العربية. بل وعندما وقعت الاتفاقيات بين إسرائيل والدول العربية؛ ما كان هناك تنفيذ دقيق إلا في الاتفاقية مع مصر.

وخلاصة الأمر أن قضية قدرات النظام العربي، لا تتعلق بالقضية الفلسطينية، أو أنها لا تتعلق بالقضية الفلسطينية بمفردها. وهناك ثلاث قضايا أخرى، لا شأن للمجتمع الدولي، ولا للتفوق الإسرائيلي بها. وتلك هي القضايا التي يكون على النظام العربي أن يخرج على العجز وعلى المراوحة بشأنها، وهي: مسألة الانقسامات الجهوية والإثنية والدينية بالدواخل، ومسألة التنمية والحكم الرشيد، ومسألة العمل العربي المشترك. فالمسألة الأولى المتعلقة بالانقسامات تتفاقم وتنتقل من دولة إلى أخرى دونما داع أو بسبب ظاهر. وقد سبقت هذه الانقسامات، ظاهرة تحول «الإسلام السياسي» إلى رأس المعارضات بالداخل. وكلا الأمرين ظاهرة غير صحية، وهي تشكك كثيرا بفكرة الدولة وممارستها، وبالقدرة على التفكير بالمستقبل. فقد استنزفت المعارضة الإسلامية، والآن الانقسامات؛ إمكانيات وقدرات كثيرة؛ وبخاصة أننا اضطررنا أيضا للاندماج في الحرب على الإرهاب؛ لأن العنف في جزء منه انطلق من عندنا. وهذه جميعا ظواهر استنزافية، تحتاج إلى علاج سريع أو بالأحرى سياسات منظمة تتجاوز الحل الأمني أو لا تقتصر عليه ولا تعتبره نهاية المطاف. ولا شك أن للتدخلات الخارجية آثارا فادحة في هذه المسألة. لكن تلك التدخلات جاءت لاحقا في الأغلب الأعم ربما باستثناء الانقسامات بين الفلسطينيين. ولعل مسألة الانقسامات الداخلية تتصل أكثر بالعامل الثاني: التنمية والحكم الرشيد. وصحيح مرة أخرى أن للمعارضات الإسلامية أسبابا أخرى غير سوء الإدارة بالداخل. لكن سوء الإدارة وانعدام المشاركة وضآلة فرص التنمية؛ كل ذلك دفع باتجاه الاضطراب والانقسام، واللجوء من جانب الأنظمة في أحيان كثيرة إلى العنف لمواجهة الظواهر المستجدة، مما يدخل الأمور كلها في حلقة مفرغة من الأفعال الهوجاء، وردود الفعل المماثلة. وقد شاعت منذ الثمانينات مقولات التنمية والحكم الرشيد. وتحققت بعض النتائج في بعض الدول العربية. لكن ذلك ما اقترن بشيء من حكم القانون والحريات والضمانات العامة.

وتضاف إلى هذين النقيضين للنظام العربي، أعني مسائل الانقسام المتفاقمة، ومسائل غياب الحكم الرشيد، مسألة العمل العربي المشترك. ويستشهد الناس في العادة بقضية فلسطين على ضآلة العمل العربي المشترك أو غيابه. لكن الواقع أن العرب يجتمعون بالجامعة العربية على الأقل من أجل فلسطين. لكنهم نادرا ما يفعلون ذلك من أجل مجالات أخرى للعمل المشترك. وإن اجتمعوا فإن توصياتهم وقراراتهم لا تنفذ، وكذلك الأمر بشأن التعاون الثنائي. ويقال على سبيل السخرية إن سورية مثلا وقعت خلال سنتين على أكثر من خمسين اتفاقية مع تركيا، وليس بينها وبين أي دولة عربية هذا العدد من اتفاقيات التعاون على مدى الخمسين عاما الماضية! وهذا مثل وحسب، وإلا فإن اتفاقيات التعاون حتى القائم منها لدى الدول العربية، لا تلقى تنفيذا. وخير مثال على ذلك الاتفاقيات بين الأقطار المغاربية. وما عادت هناك في الواقع مخاوف لدى الحكام أن يؤثر بلد في الظروف الداخلية لبلد آخر إن انفتح عليه. ولذلك لا علة لضآلة غير الإحساس باللاجدوى أو شبهة الاستغلال والابتزاز. وهذه أمور موروثة، وما عادت قائمة في الظروف الحالية، في أكثر الأحيان.

إن قضية فلسطين ليست المثل الأصلح على عجز النظام العربي، بسبب التداخل والتعقيد في سائر مسائلها بين الإقليمي والدولي. لكن هناك مسائل أخرى عديدة، يستطيع النظام العربي أن يتحرك فيها بحرية، وهي الدليل الأوضح على المقدرة أو العجز. ونقول ذلك الآن بمناسبة انتهاء مؤتمر القمة العربي بليبيا إلى نتائج أقل ما يقال فيها إنها متواضعة، رغم علو اللهجة من جانب سائر المشاركين. وقد تعمد العقيد القذافي إهانة أبو مازن، وهو يعلم والعرب يعلمون أن مسؤوليته عما جرى ويجري للقضية الفلسطينية ولأمور عربية أخرى، أكبر مما يمكن لأبو مازن وغيره أن يجنيه خلال عقود! فلا نستتر بقضية فلسطين والبكاء عليها، ونهمل قضايا كثيرة نحن مسؤولون وحدنا عن حدوثها.