كان الوزير أول «المقهقهين»

TT

قلما أرتاد مجالس علية القوم، غير أن قدمي ساقتني مرغما «لشيء في نفس يعقوب» ـ على ما أعتقد ـ وذلك عندما ذهبت إلى مجلس أحد الوزراء.

وأخذت مقعدي مستمعا وصامتا من مهابة المكان لا «أنبس ببنت شفة».

كان الوزير في أحسن حالاته من ناحية الحبور واللياقة البدنية، أخذت عليه فقط أنه كان (يثأثئ) عندما يتكلم فتتطاير بعض الأشياء من فمه، وهذا ليس عيبا بقدر ما هو خلقة رب العالمين.

وإذا برجل كبير السن متلفع «ببشت» أسود، يدخل ويسلم سلاما مقتضبا ثم يجلس، ولاحظت عليه تجهمه الذي يقترب من الحزن، وما هي إلا دقائق حتى انفجر متكلما ولم يعد يطيق صبرا، وقال مخاطبا الوزير:

يا معالي الوزير، والله إنني لم أنم منذ الليلة البارحة، وحاولت أن أتصل بك بالتليفون ولكنني قررت أن آتي إليك لأعبر لك عن مشاعري وجها لوجه.

قال له الوزير: خير (يا بو فلان).

وعرفت في قرارة نفسي أنه يعرفه جيدا.

فرد عليه الرجل: للأسف إن الذئاب في وقتنا الحاضر تستبدل بالثعالب، وإن الخيل الأصائل تستبدل «بالكدش».

قال له الوزير مبتسما ومستفسرا: ماذا حصل لا قدر الله؟!

قال: أمس قرأت أن «فلان الفلاني» قد عينوه بأمر ملكي في وزارتك، كيف يستبدلونك وأنت الشاب المتعلم، بذلك الرجل «المهكّع» الذي أصبح على مشارف القبر؟!، للأسف فإن العالم يتقدم ونحن نمشي إلى الوراء!!

أخذت الحاضرين موجة من الاستغراب بمن فيهم أنا، ولم يقطع علينا حبل صمتنا واستغرابنا غير سؤال أحد الموجودين لذلك الرجل عندما سأله: وأين قرأت هذا الخبر؟!

فقال له: في جريدة البلاد أمس.

عندها انفجر بعض الحاضرين بالضحك، لأن هناك صفحة في جريدة البلاد باسم «البلاد زمان»، وهي تنشر الأخبار القديمة لتلقي الضوء على ما كان يحصل من أحداث في ذلك الوقت.

ويبدو أن ذلك الرجل لم يفطن للعنوان الرئيسي في أعلى الصفحة، فاعتقد أن الخبر جديد، ومن محبته لهذا الوزير وغيرته على مصلحة وطنه، أخذ ينطحن ولم ينم طوال الليل وأتى لكي يعبر عن مشاعره.

المشكلة أنه قال كلاما في الوزير القديم لم يقله مالك في شارب الخمر، إلى درجة أن الوزير الجديد الحاضر أحرج وتضايق من ذلك الكلام، خصوصا أن أحد أقارب الوزير القديم كان حاضرا في المجلس.

وعندما توضحت الصورة لذلك الرجل خجل خجلا شديدا ولم يعرف كيف يبرر أو يعتذر لهذا نكس رأسه ولاذ بالصمت.

عندها فقط تكلمت وقلت له لكي أخفف من التوتر الذي حصل: يا ليت «يا أبو فلان» أن ربي يعطيك طولة العمر، وتحكي لنا أو لغيرنا بعد ثلاثين سنة انطباعك عن هذا الوزير المتصدر للمجلس عندما يخرج من الوزارة ـ سواء كان حيّا أو ميّتا.

فقهقه الجميع وكان الوزير أول المقهقهين.

[email protected]