الناس

TT

فقد العرب - لحسن طالعهم - معظم الحواس. التعود طبيعة ثانية لا مجرد عادة أولى. ومن جملة المفقودات والمنسيات حاسة الفضول. ليس من عربي يسأل، أو يتساءل حتى في داخلته وسره: كم هو عدد الحكام العرب الذين يحفظون علاقتهم بالناس؟ كم حاكما يعرف قضايا شعبه وكيف يعيشون؟ ما الموازنات التي تصرف لمعيشة الساكنين في ظلال أصحاب السلطة؟ كم حاكما عربيا يتفقد أهله وأبناءه الذين يقدمون له الطاعة والمال والأمجاد؟ كم حاكما عربيا يباسط شعبه ويصغي إلى شكاواه وآرائه وانطباعاته؟

يفعل الحاكم ذلك في الأيام الأولى ثم ينسى.. يطوقه من حوله، بحيث لا يعود يتذكر سوى أمنه ونفسه.. يضربون حوله سياجا دائريا من الحرس والعسس والعيون والآذان ولا يتركون ثغرة في هذه الدائرة العازلة من الجانبين، خاصة من الخلف. منذ أيام يوليوس قيصر تعلم الحكام أن الأصدقاء يطعنون من الخلف، وعندما اخترع الرصاص لم يتغير مكان التصويب وجهة الخداع. هكذا اغتيل محمد بوضياف أكثر رؤساء الجزائر مسالمة وأقلهم شكوكا في ما يدبر الرفاق ويخبئ المنافقون.

لقد مضى زمن طويل على الزمن الذي كان فيه الحاكم يهتم بأمر الناس ويسأل عن أحوالهم.. مضى زمن كان الحبيب بورقيبة يبكي لفقر المعلمين وعجزه عن زيادة الرواتب. لم يعد للشعب شأن. فالحاكم يقرأ الصحف التي يكتبها الرقيب والمداحون، ويدلل العسكريين ويسهر على راحتهم، وتنسخ له البرلمانات واللجان، ويسكن في منعزل خاص مزود بجميع أنواع الترف، لكنه ترف خال من المشاعر، مفرغ من حاسة الحميمية الوطنية.. منعزل يحذر الجميع ويكره المتفوقين ويسدل ستارا من العتم على كل من يلمع. الستر هو الشعار.. لا يريد المواطن العربي سوى الستر، ما عدا ذلك ترف.. يطالب بفلسطين والقدس وأفغانستان ويتابع أخبار التفجيرات في شوارع باكستان، وعندما يطالب بالخبز والتعليم وشيء من المساواة مع رجال السلطة، تلاحقه الشرطة إلى بيته، وتتهمه بخيانة القضية والتجديف على الوحدة وإقلاق الحلم العربي الذي ما زال يعتقد أنه نائم. وهو ليس كذلك.