المعرفة.. بين المبادئ والسوق

TT

«غوغل»، أكبر محرك بحث في تاريخ الإنترنت، حول توجيه نبضات البحث من موقع الصين إلى موقع هونغ كونغ للهرب من الرقابة، قبل عشرة أيام.

القول الإنجليزي «أن يحدث الآن، أفضل من ألا يحدث أبدا» استخدمه المدافعون عن حرية التعبير مرحبين بقرار تأخر أربع سنوات منذ بدء صراع العملاقين.

مئات الملايين، - الباحثين عن رقم أو قانون؛ أو أحداث من التاريخ؛ أو نقد شعري أو فني لأعمال غابرة؛ أو تفاصيل نشاط ثقافي، أو تظاهرة أو مطلب لحقوق الإنسان يوظفون عملاق الإنترنت «غوغل»، ليوجههم ببراعة غير مسبوقة نحو آلاف المواقع كمصادر متعددة للمعلومات المنشودة. العبارة السحرية «حرية الاختيار» ليقارن الباحث مصداقية أو نفعية المصادر أو مناسبتها لحاجته.

الصين، عملاق القرن 21 في البشر والصناعة والتجارة دخل في مصارعة مع عملاق المعرفة، والحلبة ملايين من شاشات الكمبيوتر.

تشابك قرون العملاقين تعبير مباشر لصراع مستقطب عبر الأجيال.

في ناحية، السلطة، - الدولة/الحكومة/الكنيسة (المؤسسة الدينية)/شيخ القبيلة/الديكتاتور الحاكم - تريد الكلمة الأخيرة في تشكيل رؤية رعاياها للعالم. وتزداد حدة هذه الرغبة إذا اكتشف الرعايا مصدرا للمعرفة - سواء التاريخية أو الخبرية - خارج الإطار المعرفي الذي رسمته السلطة.

«شيطان» فضول المعرفة، «غوغل»، تزداد سطوته وإغراءاته للرعايا في فضاء بلا سياج يحدد مساحة البحث المعلوماتي. واليوم يتجول شيطان المعرفة، في الفضاء بمعناه الحرفي خارج حدود الجغرافيا، وأرفف المكتبات، بل خارج حدود الزمن.

في الأسطورة الإغريقية، عوقب برميثيوس بأغلال أبدية تربطه لجبل أوليمبوس والطير يأكل كبده نهارا لينمو من جديد ليلا. جريمته تهريب نور/نيران المعرفة للإنسان. بروميثيوس أنهى احتكار زيوس، كبير آلهة الأساطير، للمعرفة في الأوليمب وحرمانه الإنسان منها.

ومثل زيوس، ترفض أوليغاركية الحزب الشمولي الصيني الحاكم أن يغوي الشيطان، «غوغل»، كادحين في أعماق الريف لم يروا في حياتهم العاصمة (يحسون فقط بطش الحاكم دون أن يقدر لهم معرفة وجهه ذات يوم)، بنور المعرفة من مصادر غير الكتاب الأحمر.

أغضبت «غوغل» الملايين (من مستخدميها في الغرب، حيث 90% من مصادر الدخل) بتنازلها لطلب الصين للرقابة بتحديد مصادر المعلومات للباحث الصيني في عدد ضيق من المصادر، وحرمانه من الاطلاع على مصادر متاحة لبقية العالم.

مصادر توفر معلومات عن التيبيت (هضبة يطالب أهلها، وأغلبهم بوذيو العقيدة التي تحرمها الصين الشيوعية، بالعودة لرعاية الدلاي لاما، كما كان حالهم قبل الثورة الثقافية)؛ أو مصادر تايوان (الجزر الجنوبية المعروفة بالصين الوطنية التي لا تعترف بها بكين).

كما حجبت مواقع منظمات حقوق الإنسان والاتحادات العمالية كسكك الحديد والمناجم والطباعة التي تكفل لهم دساتير بلدانهم الرأسمالية (المحكومة بالبورجوازية «مصاصة دماء الطبقة العاملة» في قاموس الماوية) حق الإضراب والاعتصام من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية التنظيمية للمساومة مع أصحاب الأعمال لرفع أجورهم؛ وهي ممارسات ممنوعة في الصين، حيث كان مصير زعماء الطبقة العاملة الإعدام علنا بعد محاكمات صورية لجريمة تنظيم اجتماع أو ضبطت معهم كتب تناقش كيف يفكر الفرد فيما يؤثر على حياته ومستقبل أولاده خارج الإطار الشمولي الذي تقرره زعامة أبدية نصبت نفسها وصية على كل الأفراد لتذيبهم في كتلة بلا شخصية أو ملامح اسمها المصلحة العامة وعقيدة الأمة.

في البداية وافقت مؤسسة «غوغل» الصين، ببراغماتية إمبراطور الإعلام روبرت ميردوخ؛ وكان أول ناشر من العالم الحر (قبل هزيمة المعسكر الشيوعي) يعقد صفقة مع الصين الشعبية للسماح لقنواته الفضائية بالالتقاط في الصين، مقتصرا على أفلام السينما والترفيه وليس البرامج الإخبارية.

فمحطات الأخبار في الغرب تنقل الواقع والأحداث كما هي حسب التركيبة الذهنية الثقافية للصحافي الغربي التي ترفض كل أشكال الرقابة.

الملياردير ميردوخ عقد الصفقة مع الصين، وبررها، في محاضرة في مهرجان أدنبره الثقافي الفني قبل عقدين، بأنه حقق فائدة مزدوجة مقابل التنازل الذي انتقدته الأغلبية وقبلته الأقلية (المنتفعة) بعدد يقل عن أصابع اليد الواحدة.

جادل إمبراطور الصحافة الاسترالي، الذي كرهته الأغلبية الساحقة من صحافيي فليت ستريت، بأن الصفقة مكنت الصينيين من رؤية نافذة لم يعهدوها من قبل، يشاهدون منها كيف يعيش الناس بحرية ويختارون حياتهم كأفراد دون وصاية من قيادة عقائدية، من خلال أعمال درامية وأفلام وتمثيليات ابتكرها خيال فنانين يبدع بحرية خارج إطار الالتزام الشمولي العقائدي بما يرضي زعماء مكتب حزب سياسي يشبه محاكم تفتيش القرون الوسطى في أوروبا وقت أحرقت أعمال الفنانين والأدباء وعذبتهم، وكفرت غاليليو لأن اكتشافاته للحقائق العلمية ناقضت المعتقدات الكهنوتية في عصر ظلام العقل.

ومثل «غوغل»، كان لميردوخ مصلحة اقتصادية باعتبار الصين أكبر سوق بشرية استهلاكية لصناعة الترفيه، لم يألف أهله، منذ الثورة الثقافية للرئيس ماو تسي تونغ (1893-1976)، مشاهدة فنون استعراضية درامية تخاطب الإنسان كفرد له حاجات أساسية وقلب وعقل مستقل؛ إذ اعتادوا أعمالا تمجد ذوبان الفرد في شخصية الأمة الجماعة كتابلوه استعراضي لا مكان فيه لحرية الفرد (مثل من يفجر نفسه بقنبلة انتحارية من أجل الأمة!).

الاستعراضات المذهلة في أولمبياد بكين صيف 2008 بهرت العالم بانضباط الآلاف كحشرات النمل أو تروس ضئيلة مجهولة الهوية في ساعة سويسرية عملاقة.

آلاف العمال والمهندسين والرياضيين والراقصين وقارعي الطبول والموسيقيين، عملوا كعبيد الإمبراطورية الرومانية لإنجاح الأولمبياد بشكل لا مثيل له.

أغنى دول العالم، كأميركا، وأعرقها كبريطانيا، تعجز عن منافسة هذا الاستعراض لسبب بسيط: لن تجد عاملين، سواء أبناء البلاد الأصليين أو مهاجرين يسمح القانون بمعاملتهم بالطريقة عومل بها معدو أولمبياد بكين. وتقديرات ميردوخ كانت صائبة بحسابات السوق. فحملة التليفون الموبايل في الصين أكثر من 703 ملايين، حسب أرقام سبتمبر (أيلول) 2009 (يتوقع الاقتصادي الصيني لين فيوان تجاوزوهم المليار في عشر سنوات) تخدمهم شركتان، إحداهما ملك الدولة، والأخرى مشاركة بين الدولة والقطاع الخاص. الشركتان تحملان خدمة الإنترنت بما فيها «غوغل» لما يقدر بـ 137 مليون مستخدم، ولن تضحيا بالسوق الضخم بمخالفة أوامر الحكومة التي حددت مقدما توجيه مسار المعلومات، وتركتها للرقابة الذاتية.

وهي في الإعلام كحال رجل قرر تعقيم نفسه ثم اشتكى من عجز زوجته عن الإنجاب. جميل أن ترفض «غوغل»، ولو بعد خمس سنوات، ممارسة الرقابة الذاتية، أسوأ وأبشع أنواع الرقابة. لكن دخلها من الأسواق الغربية التي تقدس حرية الرأي والتعبير يفوق 15 مرة دخلها من الصين. ولذا أتحفظ على تهنئة «غوغل» حتى تستمر على المبدأ نفسه بعد سنوات عندما يشع بريق الذهب من سوق الإنترنت في الصين.