جامعة «بلكنت» التركية أنموذجا

TT

سألت رئيس جامعة بلكنت التركية، كم تخصص لكم الحكومة التركية لنفقاتكم؟ جاء الرد: Zero. هذا الزيرو، هو أجمل ما قد تسمعه أي حكومة، قبل أن يكون مكسبا ونجاحا للجامعة نفسها. والسبب في هذا الرقم ليس فقط لأن «بلكنت» أول جامعة خاصة غير ربحية في تركيا، ولكن المدهش خلف هذه الجامعة ما استمعنا له برفقة وزير التعليم العالي السعودي الدكتور خالد العنقري ومديري الجامعات السعودية حيث توجهنا لإبرام اتفاقيات في مجال التعليم والبحث العلمي مع عدد من أهم الجامعات التركية.

شرح لنا رئيس الجامعة ما يميز «بلكنت» عن بقية الجامعات، وهو نحو 200 شركة منها التركية ومنها أفرع لشركات عالمية استثمارية تعمل داخل مقر الجامعة بمحاذاة مباني الكليات الأكاديمية، جعلتنا ننظر بعين الاستغراب ونتساءل: هل هذه جامعة أم شركة قابضة؟

مجموعة شركات مختلفة تعمل في قطاعات متنوعة، منها ما يعمل في المصرفيات وسوق الأسهم، إلى الطيران وتشغيل المطارات، وشركات اتصال وتقنية معلومات، وفندقة، وشركات زراعية وصناعية ومقاولات وإعلانات تجارية، وشركات طاقة، وحتى الاستوديوهات الفنية، جيش من الشركات المحلية والعالمية استوطنت الجامعة وأصبحت شريان الحياة فيها، بمعنى آخر نحن أمام نموذج فريد من نوعه؛ جامعة شركة، وشركة جامعة.

الشركات التركية عددها أربعون شركة قابضة متنوعة النشاطات، منها على سبيل المثال شركة «تاف» المتخصصة في المقاولات والإنشاء وتشغيل المطارات، انتشرت أفرعها في الدول العربية والآسيوية والأفريقية، هذه الشركة فازت بعقد تشغيل مطار النفيضة التونسي لمدة أربعين عاما، وإحدى أهم الشركات المساهمة في إنشاء مباني صالات ومكاتب مطار الدوحة الدولي والمدينة الصناعية بالدوحة، وصالات مبنى طرابلس الليبي الدولي، وبرج ماجستيك في الشارقة والأبراج المالية في دبي، وفي مصر كشركة مساهمة في تشييد فندق موفنبيك وصالات مطار القاهرة الدولي، ومدارس في كركوك والسليمانية، من خلال فروع الشركة في هذه الدول، التي وصلت حدود أفغانستان وأذربيجان وتيمور الشرقية، إلى كرواتيا وإيطاليا، وحتى هاييتي وساحل العاج.

تذكروا أننا ما زلنا نتحدث عن إحدى شركات الحرم الجامعي لجامعة بلكنت، فكيف يمكن أن نتخيل سرعة عجلة البحث العلمي في جامعة مثل هذه؟

جامعة بلا قيود، منفتحة على العالم، لا تعرف من البيروقراطية إلا ما تدرسّه لطلابها للتعريف بهذا الوحش البغيض، ببساطة لأنها تنفق من حلالها المعتمد على فكرة الأوقاف.وتعتمد الجامعة اللغة الإنجليزية في تدريسها، بمناهج ومقررات مستمدة من نظيراتها الأميركية والأوروبية في أهم التخصصات العلمية، وعلى رأسها الهندسة والبيولوجيا الجزيئية، وتستقبل كل سنة آلاف الشركات التي تقدم عروضها الوظيفية لطلاب الجامعة الموشكين على التخرج وهي تثق بما تلقوه من معارف، وما اكتسبوه من مهارات وقدرات تؤهلهم لسوق العمل.

شرح لنا رئيس الجامعة كذلك كيف أن العمل الخيري أخذ منحى آخر لدى أثرياء تركيا، فأصبحت فكرة الاستثمار في قطاع التعليم رائجة كغيرها من القطاعات، فبالإضافة إلى أنها تجارة تدر أرباحا من خلال تسويق واستثمار مخرجات العمل البحثي، فهي تعزز الحس الوطني والإنساني لدى الفرد وتكسبه داخل مجتمعه مكانة المثل والقدوة.

ولا يمكن أن يمر الحديث حول «بلكنت» دون أن نعرج على الرجل الذي صنع هذه الأسطورة في عام 1984م، والذي بكل أسف وافته المنية قبل زيارتنا لجامعته بنحو أسبوعين، ودفن في مسجد بناه فيها، وقد كنت أتمنى أن أحظى بحديث مع هذا الرجل الكبير، مؤسس التعليم العالي في تركيا، ومؤسس جامعة بلكنت وجامعة حاجة تبه، الطبيب البروفسور إحسان علي باشا الدوغرمجي، الذي أسس مجموعة «بيلكنت هولدنج» عام 1968 للتجارة، ثم انطلق كرجل أعمال مستثمر في القطاع التعليمي والأكاديمي الذي آثر العمل فيه على رئاسة الجمهورية التركية، وسخّر ماله وحياته في بناء وإدارة المراكز البحثية والجامعات، وهو من أسرة تركمانية عريقة، تزوج من كريمة حكمت سليمان رئيس وزراء العراق إبان الحكم الملكي. كان هذا الرجل التنموي يحلم أن يؤسس جامعات في بغداد وكركوك وأربيل، ولم تسعفه الظروف الأمنية ولا الزمن إلا بجامعة في أربيل يبدأ العمل بها مطلع العام الدراسي القادم في سبتمبر (أيلول) 2010، تحمل اسم جامعة بلكنت الدولية في أربيل، مسقط رأسه.

هناك أفراد سخرهم الله لخدمة الجماعة، وصناعة التاريخ، رجل واحد قد يصنع معجزة تتمتع بخيرها أجيال الأمة. مات البروفسور إحسان عن عمر يناهز المائة عام، طبيبا، باحثا، اقتصاديا، مفكرا، كريما، وطنيا، ونموذجا دوليا في التنمية البشرية، امتلك رؤية حول ما يحلم به لبلده ونفذها خير تنفيذ.

فكم لدينا في مجتمعنا الأكاديمي من أمثال الدكتور إحسان لنستثمر كل لحظة في حياته، وكل فكرة يضيء بها مساحة مظلمة، وكل طموح يقود به أصحاب الإرادة السامية والنفوس العظيمة لبناء دولة المعرفة؟

* جامعة الملك سعود