العراق: حكومة توافقية.. مجددا

TT

انتهت الانتخابات بلا فائز صريح، فالجميع فائزون، وأعداد المقاعد متقاربة، والذين كانوا خلال الحملة الانتخابية ينتقدون بعضهم بشراسة يجدون أنفسهم اليوم مضطرين للتحاور وربما للتحالف. هذه هي بعض شروط الديمقراطية البرلمانية، عندما يغدو عجز أحد الأطراف عن تشكيل الحكومة بمفرده سببا في أن يتقاسمها مع خصمه، وهذا النوع يسمى تلطيفا بحكومة الوحدة الوطنية، وربما الشراكة، لكنه في الaواقع حكومة الأمر الواقع التي لا رابح مطلق فيها ولا مهزوم، حكومة تحل مشكلة تتمثل في غياب الفائز الصريح، وتستبطن مشكلات تتمثل في غياب تجانسها وانتقال الصراع إلى داخلها على نحو ما شهدنا في السنوات الأربع الماضية. تصبح هذه الحكومة ضرورة في بلد مثل العراق، ليس بفعل المأزق الذي عبرت عنه النتائج فقط، بل وأيضا لأن لغة الأرقام ليست اللغة الوحيدة التي يعبر فيها عن التمثيل السياسي في العراق، كما قال الدكتور عادل عبد المهدي، بل هناك لغة الديموغرافيا، لغة «المكونات» التي باتت موضع لعنة الكثيرين بقدر ما هي خندقهم الأخير ضد الإقصاء والتهميش. قد يمكن نظريا أن تدفع بطرف معين إلى خارج التشكيل الحكومي، أو أن هذا الحزب قد يختار المعارضة أملا في فرصة أفضل في انتخابات قادمة، لكن المشكلة عندما يكون هذا الطرف محتكرا للتمثيل السياسي لشريحة سكانية كبيرة يبدو وضعها خارج الكيان الحكومي والمناصب إقصاء للمكون الذي تمثله.

بالطبع يقول الجميع إن هناك حاجة لمعارضة قوية، لكن أحدا لا يريد أن يكون في المعارضة، ليس فقط لأنه خيار مكلف من ناحية بالخروج خاويا من المغانم الكبيرة المتمثلة في المواقع السيادية والوزارية وما تقترن به من توافر فرص عبر هذه المواقع لإشباع دائرة المريدين والتابعين، وبالتالي الحفاظ على ديمومة الكيان السياسي وتراص أعضائه بفعل ضغط المنفعة المتبادلة، بل وأيضا لأن بلدا كالعراق في طور بناء كيانه السياسي ونظامه وترصين دعائمه كدولة وتحديد توجهات هذه الدولة وهويتها وموقعها في جيوبوليتك المنطقة يجعل جميع اللاعبين، الداخليين منهم والخارجيين، منجذبين إلى مواقع التأثير والقرار وبمنطق تعظيم المكاسب وتقليل الخسائر، فما بالك إن كان هذا البلد يستمد بقاءه وقدرته على الحياة من موارده النفطية التي تتراكم في خزينة المركز ليوزعها على الأطراف، وتلك في حد ذاتها سلطة هائلة تجعل الجميع راغبين في السيطرة على الموارد وتحديد وجهتها.

الشوط الأول من مفاوضات تشكيل الحكومة قد بدأ منذ بضعة أيام، وكان على شكل كسر الجليد بين فرقاء كانوا شديدين على بعضهم في لعبة الانتخابات، لكن لعبة السلطة لها استحقاقات أخرى. القناعة تسير مع هدوء الخطاب إلى منطق الشراكة، ما زال كثيرون متخوفين من استخدام التعبير الملطف «حكومة الوحدة الوطنية» أو التعبير السلبي «حكومة المحاصصة»، لكن الأغلبية تدرك أننا سائرون بذات الاتجاه، ربما لغياب السبيل الآخر. من الواضح أنه الثمن الأقل تكلفة من بدائله، فتهميش أي طرف كبير ينطوي على تهميش مكون رئيسي. ولأن التهميش صار يعني، وللأسباب التي ذكرناها، عدم الحصول على جزء من كعكة الحكومة، فإنه يبدو أن تلك الكعكة سيتم تقاسمها بين «جميع الفائزين»، رغم أن الشيطان يكمن بالتفاصيل، وتحديدا عندما يأتي الوقت لوضع الأسماء على الحصص، ابتداء من المنصب الأهم أي رئيس الوزراء، مرورا ببقية المناصب السيادية والوزارية، سيستغرق الأمر وقتا غير قصير قبل أن ينكشف غبار المفاوضات والتصريحات وبالونات الاختبار والتهديدات عن التشكيلة الجديدة التي ستحكم الدولة العراقية، وعندها سنبدأ الحديث مجددا عن كيفية ضمان تجانسها.

تهميش أي مكون، وفي ظل واقع يتمثل في هيمنة أحزاب وقوى معينة مختلفة على كل مكون، يعني فيما يعنيه بذر بذور تمرد اجتماعي يلي التمرد السياسي، لكن لغة المطالب القصوى قد تقود بدورها إلى تعقيد الصفقة، فنحن هنا أمام أربعة كيانات كبيرة لكل منها مطالب أساسية تتناقض أحيانا مع مطالب طرف آخر، وإنتاج حكومة تستجيب لكل هذه المطالب يعني زمنا طويلا من المفاوضات بل والصراعات الهادئة وربما الصريحة أحيانا، كل طرف سيسعى لنيل أقصى ما يريد، لكنه مع كل مكسب يستحصله سيضطر إلى تقديم شيء آخر، وفي النهاية ستتشكل الصفقة التي تحوي بذور المرحلة القادمة. فإما أن الجميع سيقنع بما لديه، أو أن طرفا ما سيرى أن تكلفة الدخول في الصفقة أعلى من تكلفة البقاء خارجها فيختار مخاطرة المعارضة، أو أن الجميع سينطلق من تلك الصفقة كحد أدنى ساعيا لما هو أكثر، فتكون السنوات الأربع القادمة مفاوضات طويلة شاقة داخل مؤسسات السلطة بين المتنافسين بحثا عن المزيد. سنكون في مواجهة صراع مستمر ربما تستخدم فيه جميع الوسائل، ولكننا أيضا سنكون في مواجهة الأمل بأن يدرك الجميع أن الكعكة كبيرة بما يكفي لتشملهم وتشمل غيرهم. الدرس المهم الآن هو أن الجميع يدرك أن لغة الشراكة هي البديل الوحيد الممكن، عندما تكون البدائل الأخرى صراعا غير مضمون العواقب.