أمة على كراسي

TT

تطلع الإنسان الأول حوله، فرأى نفسه وحيدا، وكل ما حوله جماعات. يمشي في الغابة منفردا، فيرى أن الذئاب فرق وزمر. والثعالب. والأسود. والخيول البرية قبل أن يتعلم كيف يروضها. واتخذ من البرية أمثولته الأولى: من أجل أن يبقى يجب أن يقوى. ومن أجل أن يقوى، يجب أن يستقوي بسواه، وإلا ظل فريسة ضعيفة.

عندما ذهبت إلى الخرطوم في الستينات، قيل لي إن أهل الجنوب لا يزالون يتنقلون في العاصمة كما يفعلون في الغابات: في صفوف طويلة، لا عريضة. من أجل أن يحمي الواحد ظهر الآخر من السباع. فالشجر لا يؤتمن. وعندما بنى أباطرة الصين «المدينة المحرمة»، حلقوا الأرض حلقا، ولم يتركوا شجرة واحدة، لكي لا يختبئ فيها متآمر على الإمبراطور.

من أجل أن يمتن الإنسان حمايته، اكتشف أن الحل في التكاثر. مزيد من الأقوياء، مزيد من السلامة. مزيد من الحرص. مزيد من التنبه. ثم مزيد من العمل، ثم مزيد من الجدران، فمزيد من العمران. المكان الذي لا يخصب يقحط. في البداية كان عدوه الحيوان، ثم اكتشف أن عدوه الألد هو الإنسان الآخر، فأخذ يتكاثر ويتضافر في وجهه. التكاثر ولد العائلة، والعائلة ولدت القبيلة، والقبائل ولدت الأوطان، والأوطان أدركت أن لبقائها شرطا أوليا، هو المجتمع.

النماذج البشرية القابلة للبقاء والتقدم هي المتحدة، على وجوهها ودرجاتها. الولايات المتحدة الأميركية أضخم اقتصاد في العالم، لأنها مؤلفة من 50 دولة صغيرة.. واحدة تزرع القمح، وأخرى تصنع الطائرات، وثالثة ترسل السفن إلى الفضاء. وأوروبا وحدة من مجموعة شعوب وأمم، صهرت في جماعة واحدة. والهند ولايات فقيرة، أدى تجمعها إلى قيام بلد غني.

وفي أميركا لغة واحدة، ومجموعة أديان ومذاهب. وفي أوروبا مجموعة لغات، وأديان وإلحادات. وفي الهند ست لغات رسمية، ومجموعة معتقدات. أما الذي يربط بين الأميركي القادم من السويد، والأميركي القادم من المكسيك، فهو القانون. والكفاية. وكلاهما واحد. والذي يربط بين ولايات الهند ليس نواب البرلمان، بل القواعد التي تحكم هؤلاء النواب. وهؤلاء يعرفون، بعكس نواب الكويت، أن خدمة المعاقين لا تكون باستعراض مفجع على كراسي متحركة. هذا أفظع وأقبح أنواع «التضامن» مع هؤلاء الأحباء. خدمتهم تكون بإصدار قوانين تبعث في نفوسهم الطمأنينة، وشيئا من العزاء. تكون بتخصيص الموازنات. تكون بوضع برامج التدريب. تكون بتخصيص الساقين والعربات والمساعدين. أما هذا العرض الغليظ على الكراسي الخاصة، فهو عرض غليظ. غليظ. ابعدوا عن مشاعرهم.

بدل إلغاء الجامعة العربية، نرجو إلغاء القمة العربية. لا ضرورة لقمة ليس فيها سوى الخلافات والنزاعات والتعالي وتبادل التهم. إما أن العرب جماعة والله معهم، وإما هم ما هم، ولا ضرورة للتكاذب. تعلموا من الإنسان البدائي. دعكم من الفلاسفة والنظريات المملة.