كانت المعارضة القوية تصاحب خطوات ذلك الرجل العظيم، وكان يدرك وهو يخرج من سيارته في مانهاتن العليا أنه يتجه صوب أزمة كبرى، وأن هناك أشخاصا نافذين لن يتعاملوا بود مع ما يجب عليه قوله. فيقول مارتن لوثر كينغ الابن: «لقد أتيت إلى تلك الكنيسة العظيمة الليلة، لأن ضميري يفرض عليّ ذلك».
ففي عشية 4 أبريل (نيسان) 1967، أي قبل نحو 43 عاما، أخبر الدكتور كينغ الجمهور المكتظ في كنيسة ريفرسايد، الذي يزيد على 3000 شخص بأن التزام الصمت عما يحدث في فيتنام يوازي «الخيانة».
ثم تحدث عن المذابح في منطقة الحرب، وتداعيات تلك الحرب داخل الولايات المتحدة. وقد تذكرت ذلك الخطاب الآن لسببين، أولهما أن شبكة «بي بي إس» تبث حاليا فيلما تسجيليا لتافيس سمايلي حول الجدال الذي أثاره شجب الدكتور كينغ للحرب، ونعته إياها بـ«جنون فيتنام». والثاني هو أن أحدث التقارير الإخبارية قد أظهرت زيادة الأدلة على أننا أوقعنا أنفسنا في شرك مغامرة جنونية ومأساوية في أفغانستان.
كما تحدث الدكتور كينغ عن تأكيد الولايات المتحدة التزامها بإرسال قوات إلى فيتنام، «لدعم حكومات فاسدة على نحو استثنائي، وغير مؤهلة وتفتقر إلى التأييد الشعبي».
ومن الغريب أن نقرأ تلك الكلمات بعد 4 عقود، في الوقت الذي عززنا فيه عدد القوات التي نرسلها إلى أفغانستان في معركة لتأييد حامد كرزاي، الذي استمر في السلطة بعد انتخابات، يعلم العالم بأسره أنها مزيفة، والذي يترأس حكومة هي أكثر الحكومات فسادا وفشلا على وجه الأرض.
وإذا كان كرزاي ممتنا لما فعلناه، فإنه لديه طريقة غريبة للغاية في التعبير عن ذلك، فقد تجاهل التماسات الرئيس أوباما وغيره باتخاذ خطوات فعالة لكبح جماح الفساد المتفشي.
ويعتقد كبار المسؤولين الأميركيين أن أخيه، أحمد والي كرزاي، الشخصية النافذة في جنوب أفغانستان، متورط في الكثير من الأنشطة الشائنة، بل إن كرزاي نفسه وجه إهانة محسوبة إلى الولايات المتحدة، من خلال دعوته الرئيس الإيراني، محمود أحمدي نجاد، إلى القصر الرئاسي في كابول، ألقى خلالها أحمدي نجاد خطابا متقدا مناهضا لأميركا. وكما قال دكستر فلكينز ومارك لانلر في «التايمز» خلال الأسبوع الحالي: «حتى في الوقت الذي يرسل فيه أوباما عشرات الآلاف من القوات الأميركية الإضافية إلى البلاد لدعم حكومة كرزاي، فقد أشار كرزاي إلى أن مصالحه لم تعد تتفق مع المصالح الأميركية».
فهل ذلك هو ما يموت من أجله الأميركيون في أفغانستان؟ هل تتخيل أن تضحي بحياتك أو بحياة ابنك من أجل هذه الزمرة؟
وفي خطابه، تحدث الدكتور كينغ حول الآثار السلبية التي تخلفها حرب فيتنام على حرب أميركا ضد الفقر، كما تحدث حول الطريقة التي أقصت بها هذه الحرب الكثير من المبادرات المحلية المهمة. فهو لم يكن يرغب في أن تشن الولايات المتحدة حربا في الخارج، بل أن تجدد التزامها بالعدالة الاقتصادية والاجتماعية في الداخل. وهو يوضح ذلك قائلا: «إن الأمة التي تستمر في إنفاق الأموال، عاما تلو الآخر، على الدفاع العسكري أكثر مما تنفق على التنمية الاجتماعية، هي أمة على وشك الموت الروحي».
وقد أثار ذلك الخطاب وابلا من الانتقادات، فحتى الرابطة الوطنية الأميركية لتنمية الملونين انتقدته قائلة بأنه يجب عليه الالتزام بما قالت إنه مجال خبرته، وهو الحقوق المدنية. وقد كانت افتتاحية «نيويورك تايمز» حول الخطاب بعنوان: «خطأ الدكتور كينغ».
وقد ذكر ساميلي في فيلمه التسجيلي أن «العلاقة التي كانت متوترة بالفعل بين الرئيس جونسون والدكتور كينغ، أصبحت غير قابلة للإصلاح». كما أن التبرعات التي كانت تتدفق على منظمة «مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية» كانت قد بدأت تتقلص، ومن ثم فقد كان حديث الدكتور كينغ يقتضي قدرا هائلا من الشجاعة. ويبدو موقفه الجريء مذهلا في المناخ الحالي، الذي اختفت فيه الشجاعة الأخلاقية، أو نوع الشجاعة الذي يقتضي مخاطرة حقيقية.
فقد مات أكثر من 4000 أميركي في العراق، وأكثر من 1000 في أفغانستان، التي اختارت إدارة أوباما أن تصعد عملياتها فيها بدلا من أن تبدأ عملية للانسحاب الحذر. فهذه الحرب، كما يقول جوزيف ستيغليتز، الحائز على جائزة نوبل، وزميلته ليندا بيلمز، سوف تكلفنا ما يزيد على 3 تريليونات دولار.
ولكن يبدو أن أصوات الباحثين عن السلام، ونهاية للجنون، والساعين إلى بناء الأمة، الذين نحن في أمسّ الحاجة إليهم هنا، قد أصابهم الوهن.
وبعد خطابه العظيم في كنيسة ريفرسايد بعام واحد، سوف يتم اغتيال الدكتور كينغ. وهو المصير الرهيب نفسه الذي ينتظر القوات الأميركية، معظمهم شباب، الذين ما زلنا نرسلهم إلى تلك الورطة في أفغانستان.
* خدمة «نيويورك تايمز»