رزق الله على أيامك يا مكاريوس !

TT

تعرفت الى علم تركيا لأول مرة في النصف الثاني من عقد الخمسينات من القرن الماضي. وكنت يومذاك طفلاً ادهشه منظر العلم الاحمر ذي الهلال والنجمة باللون الابيض وهو مرفوع على شرفة جيران لنا.

يومذاك لم افهم سبب رفع العلم، ولا المناسبة، الى ان مرّ تحت شرفة بيتنا موكب الرئيس التركي (يومذاك) جلال بايار، الذي زار لبنان في تلك الفترة في سياق مساعي تركيا لضم لبنان الى «حلف بغداد».

طبعاً لا تغيب صورة ذلك الموكب عن مخيلتي. كما انني اخذت ادرك منذ ذلك الحين سبب رفع جارتنا «الست مديحة» ذلك العلم. فالست مديحة سيدة تركية كريمة المحتد تعتز اعتزازاً هائلاً بهويتها التركية. وفي السنوات اللاحقة كنت ألاحظ كيف كانت تلك السيدة الطيبة تتحوّل بقدرة قادر من حمل وديع الى ذئب كاسر بمجرد تلفظ اسمين اثنين: الأرمن ...ومكاريوس.

فكانت ما ان تسمع بشيء يشي بصلة ما مع الارمن حتى تفقد رقتها ولطفها فتنهال بسيل من زمجرات السخط والسباب على كل ما هو ارمني. وما ان يشير محدث في جلسة الى الاسقف مكاريوس رئيس قبرص السابق حتى تشخص بنظرها الى علٍ متضرعة «الله قهرتسِن مكاريوس (اي قهر الله مكاريوس)»! سبب سخط «الست مديحة» على الارمن مفهوم (مع الاعتذار لكل الاخوان والاصدقاء الارمن)، فبين الاتراك والارمن «ما صنع الحداد» على مدى تاريخ الشرق الاوسط منذ فرض آل عثمان سيطرتهم على هضبة الاناضول. اما كراهيتها الفظيعة لمكاريوس فأصعب تشخيصاً واكثر استعصاء على الفهم. ولكن يبدو ان السبب المنطقي هو اعتدال الأسقف مكاريوس الذي ضمن استمرار الوحدة القبرصية الهشة. وبالتالي أخّر تحقيق حلم بعض غلاة الاتراك في الوحدة بين أتراك قبرص والوطن الأم.

ومع مرور الزمن تابعت القضية القبرصية، ودرست بعض شخصياتها، واعجبت كثيراً بشخص مكاريوس الذي نجح لفترة طويلة نسبياً في إبعاد الفتنة والتعصب القومي والديني عن جزيرة قبرص، التي انتخب رئيساً لها عشية استقلالها عن بريطانيا. وللعلم برز مكاريوس مناضلاً وطنياً في سبيل الاستقلال. وابّان نضاله كان مثل معظم الحركيين الاستقلاليين من ذوي الاصل اليوناني حليفاً لمنظمة «ايوكا» وقائدها الميداني جورج غريفاس. ويومذاك كان ضمن غايات المنظمة «توحيد» قبرص مع اليونان ـ وهو الهدف المعروف بالـ«اينوسيس» ـ . غير ان الرفيقين مكاريوس وغريفاس سرعان ما اختلفا بعد إنجاز الاستقلال عام 1960، لأن الاسقف النبيل والواعي رفض الانسياق وراء مطالب المتطرفين القوميين في «ايوكا» ـ بزعامة غريفاس ـ في فرض هدف الوحدة مع اليونان على حساب مصالح الاقلية التركية وطمأنينتها. وبالفعل عقد تحالفاً مع الدكتور فاضل كوتشوك، احد شخصيات الطائفة التركية القبرصية المحترمين ليكون نائباً له وخاضا معاً الانتخابات الرئاسية وفازا بها بسهولة. ومن ثم قاد مكاريوس قبرص المستقلة ـ والصديقة للعرب ـ رغم التحديات والصعاب حتى أطاح به متطرفون دعمهم «حكم الجنرالات» الفاشيين في اليونان في انقلاب تافه وغبي منح تركيا مبرّراً منطقياً لغزو الجزيرة وتقسيمها بحجة الدفاع عن مصالح الاقلية التركية عام 1974. وما زال هذا الوضع قائماً، مع ان الانقلابيين الاغبياء سقطوا، كما أسقط الشعب اليوناني بدوره «حكم الجنرالات» خلال ايام.

مناسبة الحديث عن مكاريوس ..انه رجل دين اكليريكي مسيحي حتى النخاع ...لكنه ايضاً رجل عاقل وحكيم ومسؤول...

مكاريوس مناضل سياسي ...نعم مكاريوس يوناني العرق والهوية واللغة والدين ...نعم لكن كل هذه الصفات لم تحل دون إدراكه حق الآخرين في ان تكون لهم، مثله ومثل ابناء جلدته تماماً، طموحات واحلام وهوية ونمط حياة.

عند هذا المفصل ادرك مكاريوس، بحكمته ونبله، ان قَدَره قيادة شعب منقسم دينياً وثقافياً يعيش على «خط زلازل حضاري» نحو الوفاق لا الفتنة. والتفاهم لا البغضاء، والحوار الداخلي لا الاستقواء بالخارج. وفي هذا السبيل وقف مكاريوس، كما وقف المهاتما غاندي، من قبله ضد المتطرفين في معسكره، ذائداً عن الوحدة الوطنية والوفاق الوطني. فبنى وطناً جديداً الكل فيه سواسية إنْ لجهة الحقوق او لجهة الواجبات. ولذا كرهه غلاة الترك وغلاة اليونان والتقت مصالحهم عن قصد او دون قصد في التآمر عليه وعلى تجربته ...وهكذا ولدت بعد الاطاحة به ظاهرة «القبرصة»، اي تقسيم البلد الواحد طائفياً وقومياً. في تلك الفترة كان ثمة بلد آخر صغير قريب من شواطئ الجزيرة القبرصية، اسمه لبنان، يخطو خطواته الاولى على طريق «القبرصة». والكارثة ان اللبنانيين الذين شاهدوا بأم العين ما حصل للقبارصة آثروا الا يستوعبوا الدرس المأساوي، مفضّلين السير قدماً في نهج الانتحار تحت شعارات طنانة رنانة زائفة ، وغايات سامية مصيرية مزعومة. وكما نعرف ادى هذا «الانتحار» الى سقوط ما بين 150 و200 الف قتيل، وتشويه مستقبل جيل بكامله من الشباب، وتدمير البنية الاقتصادية، وإسقاط عوامل الثقة ومنطلقات الحوار من قاموس التعامل الانساني بين مختلف فئات الشعب اللبناني.

وبالأمس، من دون مقدمات، ارتأى «مجلس المطارنة الموارنة» ان ينكأ جراح اللبنانيين مرة اخرى، ويعيدهم الى اجواء «حرب البيانات» والتأجيج السياسي، بعد هدنة قصيرة تلت حملة الاعتقالات ضد مناوئي الوجود العسكري والنفوذ السياسي السوري في لبنان. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا قبل غيره، هو لماذا هذا «البيان» وبهذا التوقيت بالذات؟

بداية، لا شك ان المطارنة الاجلاء يتوقعون مسبقاً ان يستثير بيانهم سلسلة من الردود. ولعلهم يتعمدون استثارة هذه الردود سعياً وراء اهداف معينة ..

ثانياً، يبدو ان «مجلس المطارنة» يعتبر نفسه الآن المرجعية الصالحة الوحيدة لقيادة مسيرة محاربة سورية في لبنان، ربما لأنه لا يحتاج الى «ترخيص» لممارسة النشاط السياسي بعكس «التيار العوني» ومناصري تنظيم «القوات اللبنانية» المحظورين ..

ثالثاً، يرى «المجلس» ان لا مصلحة له ولا لمن هم محسوبون ضمن خانته في تبريد الاجواء والانخراط في حوار جدي. بل على العكس فهو يتحرك في مسار يغلّب نزعة التطرف والسلبية داخل «لقاء قرنة شهوان» الذي يضم طيفاً من القيادات المسيحية بعضها ليبرالي معتدل وبعضها الآخر محافظ متطرف. رابعاً، يدرك المطارنة الاجلاء حتماً، انهم حتى إذا كانوا يمثلون تياراً واسعاً في الشارع المسيحي فهم لا يمثلون المسلمين ولا ينطقون باسمهم. وبالتالي فطرحهم مهما بلغ من سعة أفق يظل طرحاً فئوياً يضر بالصالح العام اكثر مما ينفعه..ومن ثم، وهنا النقطة الاخطر، يتصدى بيان «المجلس» لأي تلاقٍ ديمقراطي متحرّر من التشنج على الساحة اللبنانية، ويحاول نسف جسور التعاون بين القوى الساعية الى ايجاد ارضية تفاهم مشتركة تخترق الحواجز الطائفية في البلد عبر إحراج المحاورين غير المسيحيين ..او إخراجهم. رابعاً، يندرج بيان «المجلس» عملياً في إطار خلق الاجواء المؤاتية لتدويل الوضع اللبناني الداخلي بتجاهله الغريب الحالة الاستثنائية التي تعصف بالمنطقة.

هذا ـ باختصار ـ ما يستخلَص من بيان «مجلس المطارنة الموارنة» الثاني، مع العلم ان ما حدث بعد زوبعة البيان الاول كفيل بأن يراجع كل طرف مسؤول حساباته، قبل الانزلاق مجدداً في الرمال المتحركة.