الجلاد في دور الضحية

TT

حصل دائما في بعض الصراعات التاريخية ان الجلاد قدم نفسه في دور الضحية. وهو ما يحدث الآن، إذ يحاول نفر من القيادة الاسرائيلية واصدقائهم في وسائل الاعلام الدولية تصوير الشعب الفلسطيني كـمجموعة من «المتعصبين المعارضين للسامية». كان هذا هو التصور الذي استخدمه الوفد الاسرائيلي خلال مؤتمر مكافحة العنصرية في ديربان. بيد ان اسرائيل استفادت ايضا من جهل وسذاجة بعض المعلقين في الدول العربية والاسلامية كـ «دليل» على انها ضحية لحملة «معاداة للسامية من قبل الاسلام». والاستراتيجية الاسرائيلية واضحة: تصوير ما هو حرب سياسية على انها حرب دينية، او «صراع حضارات»، لكي تحظى بالتعاطف من ثلثي البشرية، الذين لا يدينون بالاسلام. (هل تذكرون كتاب صراع الحضارات لصامويل هانتنغتون الذي تتصادم فيه اليهودية/المسيحية مع الاسلام؟). ان اسوأ ما يمكن ان يحدث لأي شخص في صراع هو تبني العادات السيئة للعدو. فعلى سبيل المثال اورثت الديمقراطية البريطانية نفسها الندم عندما قصفت القوات الملكية البريطانية، متبنية بذلك تكتيكات هتلر، مدينة درسدن الالمانية قصفا مكثفا في نهاية الحرب العالمية الثانية. كما اهالت الولايات المتحدة على نفسها العار عندما طبقت وسائل الاستخبارات السوفياتية بـ«التحكم في التفكير» خلال حملة مكارثي لمطاردة اليساريين الاميركيين.

وقبل اسابيع شاركت في ندوة في نيويورك عما اذا كان المسلمون سيقبلون اسرائيل ذات يوم. وتبلور على الفور تحالف ـ ربما غير مقصود ـ بين متحدثين موالين لاسرائيل وبين اصوليين مسلمين، يدعي ان المسلمين لن يقبلوا اسرائيل على الاطلاق. وانتهى الامر بالاصوليين المسلمين، بغير قصد طبعا، الى اقناع جزء كبير من المستمعين بقبول ادعاء اسرائيل ان المسلمين يريدون القاء اليهود في البحر.

حقا، بمثل هؤلاء «الاصدقاء» لا يحتاج الفلسطينيون الى اعداء. ويقول مثل فارسي «بينما يساعدك العدو الحكيم على تحسين ذاتك، فإن الصديق غير الحكيم سيقع بك في التراب».

ان الصراع في الشرق الاوسط صراع سياسي وليس دينيا. وحقيقة ان اسرائيل تصف نفسها بأنها «دولة يهودية» لا يؤثر على تلك الحقيقة. وحتى اذا وصفت اسرائيل نفسها بأنها دولة بوذية او دولة بلا دين، كما كان وضع فرنسا في الجزائر، فإن الحقيقة ستظل ان شخصا يحتل أرض شخص آخر بالقوة.

ان اقحام الدين في صراع سياسي يضر بالدين والسياسة. وحتى ولو لم يكن المسجد الاقصى في القدس، فليس من حق اسرائيل ضم المدينة ضد رغبات سكانها. كما يجب الا ننسى وجود شريحة هامة من الفلسطينيين المسيحيين الذين يقاومون الاحتلال مثلما يقاومه اخوتهم المسلمون.

لقد قبل الفلسطينيون لأكثر من سبع سنوات ما اطلق عليه «عملية السلام». وكان عشرات الآلاف منهم يعملون في اسرائيل يوميا وساعدوها في تحقيق نمو اقتصادي لم يسبق له مثيل. ووقع الانفجار عندما تبين لعديد من الفلسطينيين ان «العملية السلمية» قد تدهورت الى ممارسة عبثية. ان الانتفاضة الحالية هي رد فعل سياسي على واقع سياسي وليس انفجارا للكراهية الدينية.

ان النظر الى اسرائيل من منظار الديانة اليهودية فقط ليس دقيقا. فأربعون في المائة فقط من يهود العالم يعيشون في اسرائيل. ثم ان نسبة كبيرة من يهود اسرائيل انفسهم يمكن اقناعهم بأن السياسة الاستعمارية في القرن الحادي والعشرين هي وصفة للكوارث. وهناك العديد من اليهود، وخصوصا المتدينين، الذين ليس فقط لا يعترفون باسرائيل كدولة لهم، بل هم يعتقدون انها دولة بغيضة. ومن هؤلاء اليهود الأرثوذكس من كانوا في مقدمة المـظاهرات المعادية لاسرائيل في ديربان. وهناك من اليهود، مثل عالم الالسنيات الاميركي نعوم تشومسكي والصحافي الفرنسي اريك رولو، من خصصوا حياتهم لدعم ومساندة الحقوق الفلسطينية.

ترى، هل ستتغير حقائق الاحتلال الاستعماري لو تحول جميع يهود اسرائيل الى البوذية او العلمانية؟ الواقع ان تحويل صراع مشروع ضد السياسات الاستعمارية الاسرائيلية الى صراع ديني يمكن ان يؤدي الى نتائج سلبية. يقول واحد من الذين يدعون الدفاع عن «القضية الاسلامية» في مقال له ان «العبرانيين قدموا من كالديونيا ـ الاسم القديم لاسكوتلندا ـ وانهم عبروا الفرات الى فلسطين»! ويدعو آخر الى «مقاطعة شاملة لكل الدول التي تحتفظ بأية علاقات او تجارة مع اسرائيل»، بينما يدعي ثالث ان «جورج بوش هو خادم لاسرائيل». واللافت للانتباه ان هذه الانفجارات لا تأتي من الفلسطينيين ولكن من اناس على اطراف النزاع، ولا سيما في الخليج وباكستان وايران. وبالنسبة لهم من السهل ان تكون بطلا بدماء فلسطينية وتشن «حربا مقدسة يموت فيها الفلسطينيون».

ان الذين يدقون طبول معاداة الولايات المتحدة ليسوا اصدقاء الفلسطينيين. وفي الواقع ان معاداة أميركا، مثل غيرها من المشاعر «المعادية» غير المنطقية، مرض وليست برنامجا سياسيا. كيف يمكن لشخص ان يكره اميركا مثل هذه الكراهية، في بلد يمثل المسلمون فيه ثاني اكبر جالية دينية، والاسلام اسرع الاديان نموا فيها؟ لا يوجد دليل على ان الرأي العام الاميركي، اذا تم اعلامه بطريقة صحيحة، سيؤيد سياسة اسرائيل الاستعمارية. في الواقع كشف آخر استطلاعات الرأي العام الذي اجرته شبكة «سي ان ان» أن 43 في المائة فقط من الاميركيين يتعاطفون مع اسرائيل.

ما يجب ادانته هو الافتقاد الى التوازن في السياسة الاميركية بخصوص الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي. ويجب على كل هؤلاء الذين يعتقدون ان القضية الفلسطينية هي قضية عادلة ان يبذلوا كل ما في وسعهم لاطلاع الاميركيين بهدوء وبطريقة منطقية وتعبئة الدعم من اجل سياسة اكثر عدلا.

ويتذكر هؤلاء الذين لهم علاقة بالتاريخ تلك الايام عندما كانت اسرائيل قريبة من الاتحاد السوفياتي، ثم فرنسا وبعدها الولايات المتحدة. ففي عام 1956 كان التدخل الاميركي هو الذي هزم المؤامرة الانجلو ـ فرنسية التي دعمتها اسرائيل ضد مصر، واجبرت الغزاة على الانسحاب. وفي عام 1980 كان التدخل الاميركي هو الذي اجبر اسرائيل على التخلي عن محاولات الاحتفاظ بأجزاء من سيناء بما فيها حقول نفط باعتبارها «غنائم حرب».

ان من السخف تحويل اقوى دولة في العالم الى عدو بينما يمكننا ـ شريطة ان نفهم كيف يعمل النظام الاميركي وان نلعب اوراقنا بطريقة سليمة ـ تحويل الولايات المتحدة الى شريك من اجل البحث عن سلام عادل. لقد ادرك قادة حرب الاستقلال الجزائرية هذه الحقيقة، فلم يستخدموا معاداة الولايات المتحدة، بالرغم من ان فرنسا كانت عضوا عاملا في حلف شمال الاطلسي آنذاك، بل اقنعوا ادارة كيندي بدعم الجزائر. كما تجنب قادة الجزائر معاداة المسيحية، بل معاداة فرنسا نفسها، فقد ركزوا هجماتهم ضد الاستعمار وفازوا بدعم اغلبية الشعب الفرنسي. ان القضية الفلسطينية ليست ما اذا كان اليهود قد اتوا من اسكوتلندا ام لا، وليست عداء للديانة اليهودية، كما انها ليست ما اذا كنا نعجب بالولايات المتحدة أم لا، ان القضية هي ان اسرائيل واحدة من آخر القوى الاستعمارية التي تحاول التمسك بأرض شعب آخر بالقوة، والنضال الفلسطيني هو حركة تحرير قومي، وليس حربا مقدسة ضد اي دين او دولة.