الهوس الصهيوني في مؤتمر مناهضة العنصرية

TT

في أواخر سنة 1967 ـ غالبا في شهر نوفمبر ـ انعقد مؤتمر للعلماء والفنانين والمفكرين في هافانا عاصمة كوبا للتضامن مع الشعب الكوبي ضد الهجمات الامريكية العسكرية. وقد جاءت الى هذا المؤتمر شخصيات بارزة فى تلك المجالات. فقد رأيت في المؤتمر الناقد البريطاني الشهير هربرت ريد والذي كنا نحب قراءته في مصر حينذاك ونعجب به ايما اعجاب. كما رأيت الكاتب العظيم لويس جورج بورخيس والذي كان مهوى افئدة كتاب ومثقفي امريكا اللاتينية من مكمنه في الارجنتين وكان قد فقد بصره ويجلس محاطا بالمريدين، ولعله كان اكبر شخصية في المؤتمر، الى جانب المستشرق الفرنسي الذائع الصيت ماكسيم رودونسون وشخصيات اخرى من نفس المستوى قبلوا دعوة الحكومة الكوبية وجاءوا لاعلان وقوفهم الى جانب السلطة الثورية الجديدة في كوبا. وكنا انا والمرحوم الدكتور محمد انيس استاذ التاريخ الحديث في جامعة القاهرة وعضو مجلس تحرير مجلة «الكاتب»، ضمن الوفد المصري الذي دعي الى هذا المؤتمر. في هذا الوقت لم يكن قد انقضى على هزيمة يونيو سنة 1967 الا شهور قليلة ورأينا ان البيان الختامي ينبغي ان يتضمن ادانة للعدوان الاسرائيلي على مصر وسوريا، ولم يكن لدينا اي قلق نحو الطبيعة العدوانية والاستعمارية للكيان الاسرائيلي، وأن مؤتمرا بهذا الحجم انعقد لادانة العدوان الامريكي على كوبا سوف يرحب بادانة الهجمة الاسرائيلية الاستعمارية والتي ادت الى كارثة «النكسة» واحتلال سيناء المصرية والجولان السورية وغزة والضفة الغربية الفلسطينية الاردنية. وبالفعل اقترحنا في اللجنة الاولى وكانت هي اللجنة السياسية، تضمين البيان الاخير هذه الادانة لاسرائيل. وعلى الرغم من الضجة التي اثارها هذا الاقتراح. وكان في اللجنة اعضاء من اليهود السياسيين الذين عاشوا في مصر وانتقلوا الى بلدان اوربية مختلفة واندمجوا في الحياة السياسية والثقافية في هذه البلدان تحت خيمة الاشتراكية واليسار بدرجاته المختلفة. وكان هؤلاء بالذات الاكثر صخبا وعداء للاقتراح لدرجة اتهام مصر والبلاد العربية بكل نقيصة، ومنها ان المصريين عنصريون وانهم يضطهدون مواطنيهم من ابناء النوبة اضطهادا عنصريا. ولم تنقسم اللجنة السياسية انقساما كبيرا اذ كانت اغلبية الاعضاء في صف تضمين الادانة في البيان الاخير للمؤتمر. وشكلت اللجنة هيئة صغيرة من الاعضاء لكتابة نص البيان المقترح وعرضه على لجان المؤتمر لاقراره. ولكن ما حدث كان غريبا اذ وجدنا حالة من التوتر البالغ واستدعانا ـ انا والمرحوم محمد انيس ـ الشخصية الكوبية المنظمة للمؤتمر ولست اذكر منصبه في الحزب الكوبي، ورجانا ان نتنازل عن طلب ادانة اسرائيل لأن المؤتمر في الواقع يهدف الى مساعدة كوبا في صراعها مع امريكا واصرارنا هذا سيقسم المؤتمر الذي يضم عددا كبيرا من اليهود المتعاطفين مع اسرائيل وربما ادى الى انهياره. وكان من الصعب علينا وقد تجشمنا مؤونة هذا السفر البعيد وشاركنا في الانشطة المختلفة للمؤتمر، ومع ذلك نخرج بهذا الخذلان المحبط حتى من القوى المعادية للاستعمار والمحبة للسلام والصديقة للشعوب. والحق ان الرجل لم يلح الحاحا ثقيلا علينا واكتفى بعرض وجهة نظره. ويبدو ان اقتراحنا هذا من الصعب على اي انسان محب للسلام وذي ضمير ان يقف ضده او يرفضه، على اننا لم نكد نعود الى غرفتنا حتى فوجئنا بالكاتب والصحافي والسفير اريك رولو، وهو يهودي مصري تخرج في جامعة القاهرة من كلية الحقوق وكان قد هاجر الى فرنسا وحقق نجاحا كبيرا كصحفي في جريدة «الموند» الفرنسية الشهيرة، وكان على علاقة طيبة بالقيادة المصرية باعتباره من اصول مصرية ويعتبر من الصحفيين الاجانب المقربين الى الرئيس جمال عبد الناصر شخصيا. وبدأ رولو حملة عنيفة علينا وكيف اننا ونحن ضيوف على كوبا، نهدم جهدها الكبير الذي بذلته لعقد هذا المؤتمر باصرارنا على اقحام موضوع العدوان الاسرائيلي. وكان نقاشا حادا باللغة المصرية الدارجة لم يفلح فيه رولو ان يجعلنا نعدل عن اقتراحنا، وكان في الحقيقة حانقا الى اقصى درجة وكأن القضية تهمه شخصيا. ويبدو انها كانت كذلك بالفعل. وعلى الرغم من كل ذلك الصخب والالحاح فان البيان صدر وفيه ادانة صريحة للعدوان الاسرائيلي. وفي الحفل الختامي كان الرئيس فيديل كاسترو واقفا في وسط القاعة التي تضم اعضاء المؤتمر فاقترب منه الزميل والصديق نبيل زكي ـ الذي اصبح الآن رئيس تحرير جريدة «الاهالي» التي يصدرها حزب التجمع المصري ـ وعاتبه على التردد في موضوع الادانة للعدوان الاسرائيلي. وكان كاسترو على الرغم من انتهاء الموضوع ما زال غاضبا وعبر عن غضبه هذا لنبيل زكي قائلا ما معناه ان المصريين والسوريين هم مسؤولون عن هزيمتهم في الحرب وليست كوبا وكان يجب ان يقاتلوا حفاظا على حريتهم واراضيهم افضل من ذلك. ولكنه في نفس الوقت عاد وعبر عن تأييده لموقفنا بكلمات فيها الكثير من التعاطف. وكان كاسترو شخصيا من المعجبين بالثورة المصرية وبالرئيس جمال عبد الناصر. وكانت احداث الشرق الاوسط ملهمة لثورات الشعوب حتى في امريكا اللاتينية. عندما استرجع هذه الحوادث اعجب لهذا الهوس الصهيوني حتى من رجال ذوي سمعة طيبة في مجالاتهم. واليوم انتقل هذا الهوس الى مؤتمر مناهضة الصهيونية المنعقد في ديربان في جمهورية جنوب افريقيا، فهنا تجد كيف ان هوس التعصب يؤدي الى قلب الحقائق في عقل الشخص المتعصب ويصبح صعبا عليه ان يرى الحقيقة في الموضوع المطروح على الرغم من وضوحها، وانه من الصعب على اي انسان ـ طبيعي ـ ان يجد عذرا او مبررا لعمليات الابادة الجماعية التي تقوم بها حكومة ارييل شارون ذي التاريخ الاسود الذي ينفر من مجرد ذكره اي انسان سوي عقلا واخلاقا. فهنا ليس الموضوع متعلقا برؤية مختلفة او وجهة نظر مغايرة، انه موضوع خاص بالعنصرية المقيتة في اجلى صورها وباغتصاب وباعتداء على ابسط المبادئ الانسانية. وكيف يمكن لمؤتمر عقد من اجل مناهضة العنصرية ان يتجاهل الجرائم العنصرية التي ترتكب كل يوم في فلسطين ضد الشعب الفلسطيني صاحب الارض والتاريخ، الذي يعاني ـ امام الرأي العام العالمي ـ منذ اكثر من خمسين عاما عمليات ابادة واذلال لم تكد تتوقف. ويحدث الصهاينة حركة بلبلة في كل المجالات ترمي الى اخفاء الحقائق. فالفلسطينيون الذين يدافعون عن ارضهم وحقوقهم هم ارهابيون بينما السفاح ذو الشهرة التاريخية ارييل شارون يكتسح البيوت والنساء والاطفال عيانا بيانا بحجة انه يقاتل الارهابيين ويجتث بذرتهم بواسطة الاغتيال الانتقائي. كيف ذلك وبأي منطق يأتي رجل مثل كولن باول وزير الخارجية الامريكية وهو من الاقلية السوداء والذي يعرف تماما ما هو الاضطهاد العنصري، فلا يرى الا ما تراه هذه العقول المريضة الكارهة للبشرية؟ والى متى تظل الحقائق الظاهرة في حاجة الى ايضاح؟ الواقع ان المؤتمر انفتحت امامه قضايا بالغة الاهمية وتتصل بشكل مباشر بمصير المجتمعات الانسانية، هذه المجتمعات التي عبرت بمراحل من تاريخها بالغة السوء من القتل والتدمير والتعصب والاغتصاب الى استعباد الآخرين. ان كثيرا من المجتمعات المعاصرة قامت على اسس بالغة الوحشية ومنها المجتمع الامريكي الذي صفى السكان الاصليين لامريكا (الهنود الحمر) واسس مجتمعه الجديد على استرقاق الافارقة الذين تكونت شركات كبرى على عجل لتوريدهم، وقيل ان عدد العبيد الذين استوردهم المهاجرون الاورييون تجاوز العشرة الملايين، وفي بعض الاحصاءات الاخرى بلغوا ثلاثين مليونا. وفي الفترات الاولى كان تعداد المهاجرين الاوائل لا يزيد على مائتين وخمسين الف مهاجر ولكنهم سخروا ملايين العبيد بواسطة القوة وفوهات البنادق فزرعوا الاراضي الشاسعة وانتجوا السلع وكونوا ثروات هائلة بجهود وعرق هذه الايدي المجانية التي لاقت عنتا كبيرا. والتاريخ الامريكي قام على القوة والغلب، وحتى الصراعات بين المهاجرين انفسهم، كلها قامت على القوة والاغتصاب والتآمر. ومن المؤكد ان مثل هذا التاريخ يظل مترسبا في اللاوعي الامريكي للافراد ويشكل النسق القيمي والاخلاقي ويؤثر في المواقف السياسية والحياتية. لقد وقعت هذه الاحداث الرهيبة في الكثير من المجتمعات، وقد كان مستوى الوعي والحس الانساني يتقبل هذه السلوكات، ونحن لا نملك ان ندين المجتمع الامريكي او الاسترالي او غيرهما من المجتمعات الحديثة فالتاريخ البشري مليء بالمآخذ وربما قال البعض ان هذا السلوك غير الانساني كان ضروريا لازدهار هذه المجتمعات في ذلك الوقت. ولكن الناس الآن يشعرون بأنه من الضروري تصحيح المسيرة الانسانية حتى تبنى الحياة الانسانية المعاصرة على القيم الاخلاقية التي طالما حلم بها الانسان حتى في جاهليته الاولى. ان نوبة الاعتذارات التي يطلبها الافراد والدول من الدول التي ارتكبت ضدها جرائم العدوان والقهر، مقدمة لما تبلور في مؤتمر مناهضة العنصرية المنعقد الآن. الافارقة يطالبون بالاعتذار لهم والبعض يطالب بالتعويض. وهي مطالب عادلة ولن تستقيم الحياة بشكل انساني سليم في البلدان «المتقدمة» الآن بدون الاعتذار عن هذه المساوئ وبدون التعويض الذي قد يرد بعض الحقوق المغتصبة في ايام الجاهلية. الشعوب الآن تعرف هذه الحقائق وتدرك اهمية تصحيح المسارات ليس لمجرد التعويض او الادانة بل من اجل بداية جديدة للجنس البشري يتخلص فيها من جاهليته البشعة ويتبنى عالما جديدا ينشأ بجهد الفن العظيم والفكر الرفيع والعلم الذي يقوم على ركيزة وحيدة وبالغة الاهمية لأنها جزء من تكوينه ومسعاه وهو البحث عن الحقيقة. ولقد بدا ان مؤتمر مناهضة العنصرية يحتوي على كل هذه الابعاد ويكشف عن نضج جديد لم تدركه البشرية من قبل.