ذكريات متمازجة

TT

شاءت صدف التاريخ، وأحيانا إرادة الفاعلين في صنعه، أن تجتمع في شهر غشت ذكريات أحداث مشهودة في التاريخ المغربي، بعضها ينطوي إحياؤه على الاعتزاز بصفحات مشرقة، وبعضها ينطوي على دروس جديرة بالتدبر، وجلها تدور حول تصاريف الأيام المتداولة بين المغرب وجيرانه.

في بداية الشهر حلت يوم 4 منه ذكرى معركة كبيرة جرت في 1578 قرب مدينة القصر الكبير، بين الملك سباستيان، الذي ركبه الغرور فجهز جيشا كثيفا للإجهاز على المغرب، بذريعة إسعاف مطالب بالعرش المغربي هو محمد المتوكل، الذي قام على عمه السلطان عبد الملك السعدي. وانتهت المعركة بهزيمة كبرى للجيش الغازي، وموت ملك البرتغال. وكذلك مات في تلك المعركة، الملك الدعي المتوكل، والملك الشرعي عبد الملك متأثرا بمرض. ولهذا عرفت المعركة باسم معركة الملوك الثلاثة. وتسمى عند المغاربة بمعركة وادي المخازن، علامة على الموقع الذي جرت فيه، ويسميها الأتراك بمعركة السيل، باعتبار أن جزءا من الجيش الغازي جرفته مياه النهر رغم أنه يكون في شهر غشت في أدنى مستوى. وهذه ذكرى من الذكريات التي تبعث على الاعتزاز، لأن المغرب بانتصاره في تلك المعركة، كسب هيبة كبيرة في أعين القوى الأوربية. ومن جهة أخرى، فإن هزيمة البرتغال أدت إلى اضمحلاله، إذ بعدها آل عرش البرتغال إلى الملك فيليبي الثاني ملك إسبانيا. وفوق ذلك فإن صد المغرب للغزو البرتغالي أخر الزحف الأوربي نحو افريقيا، كما كف البرتغاليون عن التوسع في الخليج، حيث كانت لهم مواقع في عمان. ويحتفل المغاربة بذكرى تلك المعركة، وهي من الرموز الوطنية البارزة، وهي ايضا بالنسبة للبرتغاليين ذكرى مشؤومة تحث على التأمل والاعتبار. ولا ينطوي إحياء هذه الذكرى من جانب المغاربة، على شعور بالشوفينية والعداء للأجنبي، لأنها في الأصل كانت حربا مفروضة، خاضها المغاربة دفاعا عن النفس.

وبين المغرب والبرتغال حروب عديدة، كانت كلها بسبب احتلال البرتغاليين لمدن ساحلية بالمغرب، أولها سبتة في 1415، وآخرها الجديدة التي جلا عنها البرتغاليون بعد حرب مريرة في 1969.

وكان من إفرازات معركة استرجاع الجديدة، حادث جانبي ما زالت آثاره قائمة حتى اليوم في البرازيل. فبعد أن رأى ملك البرتغال جوزي الأول، أن ملك المغرب محمد الثالث، عازم على محاصرة الجديدة إلى النهاية، ورأى أن مقاومة الحصار لا فائدة منها، قرر الانسحاب منها، وأرسل ثلاث عشرة سفينة لإجلاء المستوطنين البرتغاليين عن المدينة. وتذمر هؤلاء من قرار الملك، واعتبروه استسلاميا، وأفسدوا مخطط الانسحاب الودي، وقاموا بتدمير المدينة عن آخرها، حتى سماها الملك محمد الثالث بالمهدومة، وخطها من جديد، حفيده م. عبد الرحمان، وأطلق عليها اسم الجديدة، وهو اسمها الحالي. وكانت تسمى في زمن الاحتلال البرتغالي مازاغان. وتم ترحيل المستوطنين الغاضبين إلى ضاحية قرب لشبونة، ولكنهم نفروا من مقامهم الجديد، وطلبوا من الملك نقلهم إلى البرازيل، وهناك اختاروا مكانا قصيا في أبعد نقطة بشمال المستعمرة، وأسسوا مدينة خاصة بهم سموها «مازاغان نوفو»، أي مازاغان الجديدة. وقد زرت مازاغان هذه، وهي واقعة في ولاية أمابا التي يخترقها خط الاستواء، ووجدت أهل المدينة، وهم أحفاد المازاغانيين الغاضبين في ما سلف، يحتفلون بعيد تأسيس مدينتهم، في استعراض فلكلوري، يتميز بتمثيل معركة بين المسلمين والمسيحيين، اسمها بالضبط هو «موروس إي كريستيانوس». وتقتضي الطقوس الجارية منذ أكثر من قرنين، أن تدوم المعركة ثلاثة أيام، وتنتهي، على عكس ما جرى بالفعل في مازاغان منذ 232 سنة، بانتصار المسيحيين على المسلمين. ودعيت إلى أن أخطب في ختام المهرجان، الذي يجري في رحاب كاتدرائية المدينة. وسجل العمدة، في خطاب ترحيبه بي، أن أحفاد المازاغانيين، الذين ينقسمون تبعا لمقتضيات الطقوس الاحتفالية إلى مسيحيين ومسلمين، يحضر معهم، في شخصي، لأول مرة شخص مسلم، بدأ كلمته لهم بالسلام عليكم. وقال الأسقف إنه تكريما لسمعة المغرب في خدمة السلام، فإن طابع احتفالهم سيتغير بعد زيارتي لهم، ليصبح عيدا للتلاقي والحوار، بدلا من طابع المواجهة الذي تكتسيه معارك «موروس إي كريستيانوس». كان الوقت فصل شتاء في البرازيل، وهو شهر يوليو. أما رحيل أجدادهم من الجديدة فكان في مارس، لأن الملك محمد الثالث، تعمد أن يبدأ الحصار في فصل الشتاء (يناير)، لكي يكون صعبا وصول المدد من البرتغال، بسبب الهيجان الذي تعرفه سواحل المحيط حينئذ.

وفي فصل الشتاء أيضا، اقترنت عقارب الساعة لتحدد موعدين مع إسبانيا. لقد دخل الجيش الإسباني إلى تطوان صباح يوم بارد، لكنه مشمس، من فبراير 1860. كان في ركاب جيش الاحتلال، شاعر متخف في رداء صحافي، هو بيدرو دي ألاركون الذي ترك لنا وصفا ذكر فيه أنه حينما فتحت ابواب المقابر ليدخل منها الجيش الغازي، اجتاز الجنود شوارع قفراء. قال ألاركون: «الشارع الأول الذي صادفناه، طويل. كل الأبواب موصدة. لم تكن هناك روح كائن حي تتخطر في أي مكان. دخلنا الشارع الثاني، فوجدناه تصطف على جنباته، دكاكين عليها أمارات النهب الذي تعرضت له في الأيام السابقة لدخولنا. لكن في النهاية وقعت عيني على كائن حي. إنه رجل عجوز، له لحية بيضاء، وعلى رأسه عمامة جليلة. ورغم الجلبة التي كانت تحدثها مسيرتنا، لم يرفع عينيه لكي ينظر إلينا. ولا قام حتى بأي حركة ليتلافى أن تدوس رجليه خيولنا. كان جامدا مثل صنم».

هكذا وصف ألاركون إضراب المدينة عن استقبال زوارها المرفوضين. ونقلب الصفحة، ونجد التاريخ يتحدث عن مشهد مماثل، تفرضه على الذاكرة، الأصول التي يتحدر منها سكان تطوان الأوائل القادمون بالذات من غرناطة. يقول المؤرخ الإسباني مارمول وهو يصف دخول الملكين إيسابيل وفرناندو، إلى غرناطة، إنه حصل ذات يوم بارد، ومشمس كذلك، هو يوم 2 يناير 1492. ويذكر بالذات، أن كل الغرناطيين دخلوا إلى منازلهم، وأقفلوا عليهم الأبواب، بينما كان الملكان الفاتحان يصعدان نحو «الحمراء»، وأبوابها مفتوحة، حيث تسلمها إينييغو لوبيث دي مينضوثا، من قائدها الأحمري، ابن قميشة. كل الغرناطيين ـ يقول مارمول ـ لاذوا ببيوتهم، باستثناء أولئك الذين كان عليهم بحكم مهامهم أن يؤدوا واجبا ما. الجزء الذي يسبق هذا المشهد نعرفه. سلم أبو عبد الله المفاتيح إلى الملكين، واتجه نحو منفاه بالمغرب. وفي ربوة، ترى منها غرناطة قبل آخر منعطف، وجه نظرة حزينة إلى مدينته، وبكى، وسمع من أمه، ذلك التوبيخ القاسي الذي بقي مقولة تتجدد في كل موقف لا ينفع فيه الندم. وأما الربوة فهي تعرف حتى اليوم، بتنهيدة المورو. معركة تطوان، اعتبرتها إسبانيا صفحة مجيدة، ولهذا أطلق اسم تطوان على شارع في كل مدينة بها. ومن حديد المدافع التي غنمت في تطوان صهر الإسبانيون الأسدين اللذين يربضان في مدخل مجلس النواب الإسباني. ولعل هذا هو السبب الذي أدى بالملك محمد السادس إلى أن يمتنع عن زيارة المجلس وإلقاء خطاب أمام مجلس الكورتيس، واكتفى بدلا من ذلك بزيارة مجلس الشيوخ. وأما ذكرى غرناطة، فإنها خضعت لنقاش بمناسبة مرور خمسمائة سنة على استرجاعها من لدن إسبانيا. ووقع مثقفون إسبانيون منهم المدير السابق لليونسكو على عريضة بأن يتغير طابع الاحتفال بها، من طرد العرب إلى التلاقي الثقافي. إن الذكريات متمازجة بيننا وبين جيراننا من الإسبانيين والبرتغاليين، وهي كثيرة وقديمة. وقد تغيرت طبيعة العلاقات في العصر الحاضر، خاصة بعد تصفية الاستعمار. وأسدل الستار على صفحة من تاريخ البشرية، استعرضنا جميعا جوانبه البشعة طيلة الأيام الماضية، في غمرة انعقاد المؤتمر العالمي ضد العنصرية والرق.

تميزت عصور ما قبل تصفية الاستعمار، بمواجهات أثمرت تلاقحا ثقافيا كثيفا، ومبادلات تجارية، وكانت الحروب أول وأبرز مظاهر التواصل. وفي الوقت الذي كان فيه دخول الإسلام إلى القسطنطينية نكسة لأوربا، كان خروجه من غرناطة تعويضا عن تلك النكسة. وفي ما بين هذا وذاك كانت الحروب الصليبية، والسجالات التي حفلت بها، إرهاصا بعصر النهضة. ثم جاء الزحف الأوربي نحو بلدان الجنوب، في سياق حركة الاستكشاف وامتلاك الثروات، ليشكل حركة الاستعمار الحديث، الذي هو ظاهرة أوربية بامتياز.

وللمرء أن يزعم، دون أن يكون في الأمر ادعاء غرير، أن حركة التوسع الإسلامي اختلفت عن حركة التوسع الأوربي، في مظهر أساسي، وهو أن المسلمين في اندفاعهم القوي شرقا وغربا وشمالا، كانوا يرفعون كشعار لتبرير توسعهم، نشر فكرة وحدانية الله. وأما في حركة الزحف الأوربي، فإن المبرر كان هو أن أمم الجنوب همجية، والإنسان الأوربي مخول بتمدينها. في الحركتين كان هناك السيف والفكرة. السيف هو السيف في كل حال. والفكرة اختلفت من حالة إلى أخرى.