مع «حكواتية» المقهى السياسي اللبناني

TT

تبدو عودتي لحديث بشار في تلفزيون «المنار» متأخرة، لكن الحديث السوري بات «مرجعية» لبنانية. كل ما حدث من تطورات في لبنان، منذ ذلك الحين، بُني على «حكي» بشار في مقهى «المنار».

لبنان مقاهٍ سياسية ، كل من يدخله يغدو فوراً «حكواتياً». ها هو بشار يدخل المقهى اللبناني. «حكواتي» آخر يحب الكلام. غير أن حديثه كان في «المليان». لم يتبدد في دخان حكواتية لبنان. وها أنا «حكواتي» يفسر ألغاز ورموز «الحكواتية» التي يصعب فهمها وتحليل أسبابها وجذورها على القارئ العربي. أعتبر ذلك واجباً إعلامياً تجاه رأي عام عربي يسمع. ويريد أيضاً أن يعرف. لأن ما يجري في لبنان يعكس سير الأحداث والاتجاهات المتوقعة في المنطقة العربية.

قدم الرئيس السوري ما يشبه الاعتذار للرئيس اللبناني. فقد تعرض ميشال سليمان إلى حملة منظمة قادها فجأة حلفاء سوريا في لبنان، سليمان عسكري صارم. وسياسي طيِّب. ربما عتب.

جاء الاعتذار السوري على شكل براءة ذمة من العلاقة بالحملة، بالإعلان عن الانسحاب من التفاصيل اللبنانية، يعني الاستقالة من التظاهرات والمشاحنات بين «حكواتية» المقهى اللبناني. الانسحاب يريح بشار. تبقى خشية الذين يتناولهم «الحكواتية» بالاتهام، من أن يكون الانسحاب بمثابة إعطاء ضوء أخضر للحلفاء والأعوان، لشن حملات لا تتحمل دمشق مسئوليتها.

ما أسباب الحملة التي أثارت قلق رئيس لبنان؟

السبب بروتوكول أمني، أجاز الرئيس لحكومة فؤاد السنيورة السابقة توقيعه مع أميركا، وسكت عنه «وزراء سورية» في الحكومة. ثم صحوا الآن على مطالبة إدارة أوباما لبنان بمعلومات عن الإرهاب والاتصالات. اعتبر حزب الله الطلب الأميركي بمثابة مشروع «تجسس» على شبكة اتصالاته الداخلية والخارجية مع إيران.

سليمان لم يسكت عن الحملة، تحداها بالإعلان عن تخريج دفعة من رجال المخابرات العسكرية، شارك في تدريبهم خبراء أميركيون في مكافحة الإرهاب. الواقع أن لبنان يتلقى منذ عام 2005 أسلحة ومعدات أميركية إضافية بعشرات ملايين الدولارات، ويعتبرها حزب الله بمثابة تعزيز قدرة الجيش اللبناني على تحمل عبء مواجهة مع الحزب، الذي بات يملك قوة مهددة للأمن الداخلي، إن لم تكن قادرة على تفكيك الجيش بسحب العناصر الشيعية منه. كما حدث خلال الحرب الأهلية.

تحدثت عن السبب الظاهري والمباشر. لكن ما هي الجذور والأسباب الكامنة؟ بطريرك الموارنة نصر الله صفير، وحليفه السياسي سمير جعجع المعادي لسورية وحزب الله، سارعا إلى دعم «هيبة» ومكانة رئيس الجمهورية الماروني. أقول هنا إن موارنة لبنان يشكون من التهميش السياسي لهم، خلال العصر السوري في لبنان وبعده، يقولون إن رئيس الجمهورية تحول من حكم إلى وسيط لا يملك. ولا يحلم.

الرئيس سليمان نفسه سبق أن شكا مطالباً بـ«تكبير» دوره، بعدما لمس عجزه عن الإسراع بتشكيل حكومة سعد الحريري الحالية. وبعدما اضطره نبيه بري زعيم «أمل» والحليف الشيعي الأقرب للنظام السوري إلى التغيب عن القمة في ليبيا، على الرغم من أنه كان مطلوباً من لبنان العضو في مجلس الأمن التنسيق مع الزعماء العرب، بخصوص احتمال عرض القضية الفلسطينية مجدداً على المجلس.

لم ينفع سليمان دعمُ بطريرك الموارنة نصر الله صفير، فقد انبرى بري مرة أخرى للاتفاف على الرئيس سليمان والموارنة، بمناورة ذكية. نفض «حكواتي» الشيعة المخضرم الذي لا يقل فصاحة عن حليفه اللدود «حكواتي» حزب الله الغبار عن مشروع إلغاء «الطائفية السياسية» الذي ذكَّر اتفاقُ الطائف (1989) اللبنانيين بوجوب إلغائه، ثم نام في حضن بري نفسه خلال 15 عاماً من عمر الزمن السوري في لبنان (1990/2005). ماذا تعني الطائفية السياسية؟ نظام متخلف يقضي بتوزيع نسبي لمناصب الدولة السياسية والسيادية والإدارية والتشريعية، على أبناء الطوائف.

تبدو حماسة بري رجل الطائفة منسجمة مع مشروع دولة الحداثة والمعاصرة العربية التي انحدرت بعد خمسين سنة من الاستقلال إلى دولة عشائرية أو طائفية، لكن لماذا الآن؟ لماذا يريد إحلال المناسب في الزمن غير المناسب؟ أو كما قال البطريرك صفير إنهم يريدون إلغاء الطائفية من «النصوص» قبل إلغائها من «النفوس».

ما لم يعبر عنه بطرك الموارنة صراحة، ويؤيده في ذلك موقف زعماء السنة، هو أن يكون إلغاء الطائفية السياسية مع مشروع آخر لتخفيض سن الانتخاب إلى سن الـ18 الأكثر شبابية، مندرجا ومبرمجاً لخدمة المشروع الشيعي في لبنان: إحلال دولة الطائفة (الشيعية) محل «دولة الطوائف» المتحاربة أو المتهادنة في لبنان، هذا المشروع الذي جاهر به حسن حزب الله منذ الثمانينات، ويصمت الآن صمت الراضي عنه، بات يراود الخيال الشيعي، بعد تكاثر الشيعة. وتسليح حزب الله بما يكفي الآن لإقامة دولة له داخل الدولة، مدعوماً بدعم سياسي ومادي من إيران التي باتت أكثر انطلاقاً في لبنان، بعد الانسحاب السوري العسكري.

هل سورية بشار غافلة عن تنمية حليفتها إيران للمشروع الشيعي في لبنان؟ لا أظن بشار بغافل عن مشروع إيران لمحاصرة سورية، من خاصرتيها العراقية واللبنانية. لكن لماذا سورية بشار تقاوم المشروع الشيعي في العراق، وحريصة على «المقاومة» الشيعية في لبنان؟ هل هناك خطأ في التصور الاستراتيجي السوري على المدى البعيد، في مقابل تكتيك الاستعانة بالورقة الشيعية إلى جانب أوراق أخرى، لمفاوضة إسرائيل من موقع قوة على الانسحاب من الجولان؟ أترك السؤال معلقا بجواب سوري يفصح عنه المستقبل.

آه! أكاد أنسى محكمة الحريري. بشار يعتبرها مجرد «بازار» دولي. ربما يقصد مساومة أميركا والغرب له بتسييسها ضده. تبدو زيارة الحريري المقبلة لدمشق كزيارات أبية الراحل. مثقلة بملفات صعبة. ترسيم الحدود. معاهدات العصر السوري المفروضة على لبنان. فوقها عبء المحكمة الدولية. لعل بشار يبدو، ضمناً، أكثر راحة نفسية وهو يشاهد حليفة حسن حزب الله «يجاهد» على الشاشة لإبعاد شبهة الاتهام عن شهيده «عماد مغنية» التي توحي «تسريبات» المحكمة بأنه هو المسئول عن ترحيل الحريري «الشهيد» الآن.

خير الكلام ما قل ودل، لم يبق من جنبلاط «الحكواتي» العائد إلى بشار (وما أحلى الرجوع إليه... إليه) سوى اللسان ليدفع خطر تفجير لبنان، بدعوة المحكمة إلى الموازنة بين «استقرار لبنان» و«العدالة».