عراق ما بعد «الماضي البغيض»

TT

إذا جاز لنا استخلاص العبر من الانتخابات العراقية الأخيرة بغض النظر عن نتائجها وما هي القائمة الحاصلة على أعلى الأصوات أو شكل الائتلاف الحكومي المرتقب، أو حتى دعاوى نوري المالكي ببطلانها ومطالبته بإعادة فرزها يدويا.. فنقول إن الدرس الأهم في هذه الانتخابات هو أنه بالإمكان أن يصبح هذا البلد ديمقراطيا حقا، لأن شعبه أدرك أهمية تداول السلطة والتغيير. فقد تعلم من تجربة إجراء أكثر من انتخابات برلمانية وبلدية، والأهم أن مواطنيه وشعبه - وليس قادته - أصبحوا على دراية كافية بالعملية الانتخابية التي هي نتاج تجارب ديمقراطية وليدة ثم سارت في طريقها للتكامل والوقوف على أرض صلبة. هذا بغض النظر عن الثمن الباهظ الذي دفعه العراق شعبا وبلدا وأرضا ودما للوصول إلى هذه المرحلة من النضج.

ويكتب للانتخابات العراقية كنظام انتخابي، تبني القائمة النسبية بهدف كسر الاحتكارات الطائفية والسماح لمختلف الأحزاب بالتنافس على السلطة. ولكن هذا لا ينفي تماما استبعاد الخطوط الطائفية والمذهبية والإثنية، لأن بلدا مثل العراق يصعب تجاهل مثل هذه الخطوط وهو يسير نحو بناء المستقبل، فهي تشكل إرثا من الصعب تجاوزه بسهولة. وإذا كانت القوائم الانتخابية بكافة فصائلها وأطيافها السياسية وشعابها الدينية (المذهبية)، قد وظفت الدين والطائفية أثناء الحملة الانتخابية، فهي للتأثير على الناخب واستمالته، ومن ثم الحصول على صوته الغالي.

وبديهي ونحن نتحدث عن نتائج الانتخابات العراقية، أن نشير إلى الحرب الضروس بين أكبر متنافسين فيها، وهما إياد علاوي على رأس قائمة العراقية وخصمه اللدود رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي على رأس ائتلاف دولة القانون. وربما من عنوان كل ائتلاف، يمكن الخروج بالمضمون السياسي أو هدف برنامج كل جهة. فعلاوي اقترب كثيرا من دول الجوار ويتمتع بحس سياسي عروبي وقومي، ويأمل في التأهل لمهمة تولي تشكيل الحكومة المقبلة. ومن ثم، يستطيع إدارة السياسة الخارجية للعراق على نحو ما يرتضيه لبلد متوازن في علاقاته الإقليمية والعربية والدولية، وهو يبحث عن التوافق مع بلدان الخليج وسورية وإيران ومصر. وقد يبدو لهذا السبب، حصول علاوي على ثقة ودعم العرب السنة، ليس لعدم وجود شخصية سنية كاريزمية، وإنما لسياسة علاوي وتجربة السنة معه إبان فترة توليه رئاسة الوزراء التي عكست للجميع مدى حسه القومي، وابتعاده عن إيران كتابع مفضلا دور الشريك. حتى إن علاوي يكتب له أنه ينأى بنفسه عن المجلس الأعلى الإسلامي، الذي ينظر له أغلبية السنة على أنه وكيل لإيران في العراق. ثم إن علاوي وخلال الفترة التي تحدثنا عنها، لم يهمل المناطق الشيعية، ويعد أداؤه فيها أفضل من أداء نوري المالكي في المناطق السنية. فالأخير عمل جيدا في بغداد ومعظم المناطق الواقعة إلى الجنوب منها. وكان أداؤه سيئا في المناطق التي يغلب عليها السنة.

وربما لهذا السبب تحديدا، ووفقا للقراءة الأميركية للمشهد السياسي في العراق، فإن الناخبين العرب السنة اكتسبوا جرأة تمثلت في مشاركتهم القوية في عملية التصويت لمصلحة قائمة علاوي وللقوائم التي يفترض أن تسانده في تشكيل الحكومة المرتقبة. مثل هذه المشاركة مثلت تحديا كبيرا وعلى غير المعتاد، في مواجهة التحالفات الكردية والشيعية التقليدية، لأن هذه التحالفات ترى أحقيتها في تولي الزعامة بالعراق خلال الفترة المقبلة، ومن بين هذه الحركات التيار الصدري الذي يعتقد أنصاره أن قيادة الائتلاف الحاكم يجب أن تكون من نصيبهم، خاصة أن النتائج المعلنة حتى الآن تشير إلى تزايد أعداد نواب التيار في البرلمان الجديد، مما يؤشر إلى زيادة نفوذهم داخل العراق، وليكون ذلك مفاجأة لكل من استخف بقوة الصدريين. وإذا صح ما أعلن حتى الآن من أرقام للجان الفرز، فإن الصدريين شبه ضمنوا نحو أكثر من 40 مقعدا، مما يجعلهم أغلبية صريحة في الائتلاف الوطني العراقي (فصائل إسلامية وشيعية وتحالف كردي)، وهذا يضمن لهم أن يشكلوا قوة سياسية نافذة، وتكتلا بحجم تكتل الأكراد الذين يتمتعون بثقل هام في عملية تحديد الائتلافات الحكومية منذ عام 2005. وتعد زيادة نفوذ التيار الصدري مؤشرا طيبا في حال تمكن قائمة العراقية بزعامة إياد علاوي من تحقيق أعلى أصوات، لأن الصدريين وهم ضمن الائتلاف الوطني أعلنوا صراحة اعتراضهم على إعادة ترشيح المالكي لرئاسة الوزراء في حال فوز ائتلافه في الانتخابات.

وما يهمنا ونحن نستخلص ما توصلت إليه الانتخابات العراقية حتى وقتنا الراهن.. أن المشهد السياسي مرشح للتغيير على الساحة الإقليمية، وهو ما زاد من مخاوف إيران من تغيير قواعد اللعبة السياسية في العراق الجديد. فإيران أصلا تواصل نفوذها داخل العراق منذ الاحتلال الأميركي ومن قبله، وتخشى من تهاوي نفوذ القوى الموالية لها، لأن أي فوز للعراقية والائتلاف الوطني يعني تراجع نفوذها بصورة كبيرة في هذا البلد الذي حاربت كثيرا للسيطرة على قواه السياسية الحاكمة وغير الحاكمة. ومن هنا، يمكن القول إن السبب الوحيد الذي قد يدفع المالكي للمشاركة في ائتلاف حاكم بقيادة العراقية هو ضغط إيران عليه، من أجل الاستمرار في السلطة وعدم الابتعاد عنها ولو للحظة. فالاستمرار في السلطة يمكن المالكي وأتباعه وائتلافه (دولة القانون) من حصة في الحكومة والخدمات، ومن ثم أيضا التأثير على سياستها الخارجية وضمان عدم الانقلاب على إيران لمصلحة قوى إقليمية أخرى.

وقد وجه المالكي بمطالبته إعادة فرز الأصوات، سهما قاتلا للديمقراطية الوليدة في بلاده عندما يستغل وضعه كرئيس للوزراء وقائد عام للقوات المسلحة، ليستلب من الشعب حقه الذي مارسه عبر صناديق الاقتراع. ومن سهام المالكي السامة تصوره أنه أصبح فوق القانون وهو عنوان قائمته للأسف، ونسي أن من شروط الديمقراطية الصعبة الرضاء بنتائجها والقبول بالآخر وعدم احتكار السلطة والاحتكام إلى رغبة الناخب مهما كانت نتائجها. والمالكي بذلك يعيد إلى العراق ماضيه البغيض، بتمسكه بأهداف نظام مقيت عرف بـ«قبضة الرجل الواحد والسلطة الوحيدة».

وإذا كان علاوي قد صرح سابقا أنه على استعداد للقبول بمشاركة المالكي في حكومته رغم اعتراضه على سياساته السابقة وطريقة حكمه الانفرادية، فهو لكي يضمن الإسراع في عملية تشكيل الحكومة مع ضمانة أخرى لا تقل أهمية، تتمثل في عدم التوسع في الائتلاف الحاكم حتى يقلل من شروط شراكة كل كتلة سياسية، مع ضمان أيضا إشراك الحركات والكتل غير الطائفية باستثناء مجموعة المالكي.

نعلم جميعا أن «الطائفية والمذهبية والإثنية» هي الجمرة الخبيثة التي أصابت الجسد العراقي، حسب وصف مستشار الأمن القومي العراقي السابق موفق الربيعي.. وبالتالي، فإن ما يحتاجه العراق اليوم للقضاء على هذه الجمرة التي زرعتها وروتها قوى إقليمية والولايات المتحدة أيضا، هو تحالف إقليمي عربي، خاصة بعدما عانى هذا البلد العربي الشقيق من تسييس المذاهب والدين. وإذا أراد العراق الاتجاه صوب البوصلة السياسية الصحيحة، فلا يجب الرهان على ما دون الوطن، لأن الرهان على الطائفية أو المذهبية وخلافه يهد أركان الوطن ولا تقوم له قائمة ولو بعد حين.

نتمنى على القادة العراقيين - ونقصد المالكي تحديدا - ألا يكونوا أسرى لمقولة الضعفاء «إما فائزين تماما وإما خاسرين تماما»، لأنها امتداد للصراع الطائفي والديني في بلاد الرافدين، الذي يؤججه السياسيون وأتباعهم، وليس عموم الشعب، الذي لا يزال هو الضحية لكل أهواء هؤلاء الذين يتلاعبون بمستقبله. فالمطلوب احترام نتيجة التصويت، وليس فرض الدكتاتورية.

* كاتب ومحلل سياسي بحريني