كيف نصنع إيزنهاور آخر؟!

TT

الفكرة ليست فكرتي تماما، ولكنها جاءت عرَضا في مناقشة مع واحد من مديري مراكز دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة، وكان سؤالي الأول له: «ماذا نفعل مع نتنياهو، وهو في التقدير رجل لا يريد سلاما ولا حتى هدوءا في المنطقة حتى لو توفرت له ظروف لم تتوفر لرئيس وزراء إسرائيلي سابق، فليست هناك حرب في المنطقة منذ آخر الحروب في غزة، والجامعة العربية تفوض محمود عباس - أبو مازن - في البحث عن تسوية تفاوضية، وإسرائيل في أحسن أحوالها الاقتصادية حتى بلغ متوسط دخل الفرد فيها 37 ألف دولار، وهو ما يطاول دولا متقدمة كثيرة، ورغم كل شيء فإن الغرب يبدأ وينهي عتابه لإسرائيل دوما بالتأكيد على العلاقات الأبدية بين الطرفين؟».

لم يجب محدثي سؤالي وقفز فورا إلى طرح فكرته التي تقوم على أن نتنياهو سوف يستمر في تعقيد الأمور ما لم يتعرض لضغوط كبيرة من الولايات المتحدة، فيجب أن لا ننسى، والكلام لا يزال للخبير الأميركي، أن إسرائيل كانت قابلة للضغط الأميركي على الأقل مرتين: مرة عندما ضغط إيزنهاور على بن جوريون حتى انسحبت إسرائيل من سيناء في مارس (آذار) 1957 بعد مشاركتها في العدوان الثلاثي على مصر مع بريطانيا وفرنسا، وبينما كانت هاتان الأخيرتان قد انسحبتا في 23 ديسمبر (كانون الأول) 1956، فإن إسرائيل تلكأت حتى جاءها الإنذار من واشنطن فلم يكن أمامها سوى الاستجابة. والمرة الثانية كانت بعد حرب الخليج في عام 1991 وتصميم الولايات المتحدة على العمل على حل الصراع العربي - الإسرائيلي في وقت كان فيه إسحاق شامير رئيسا لوزراء إسرائيل ومعارضا لكل أنواع التفاوض، فما كان من جيمس بيكر وزير الخارجية الأميركي إلا أن قام بليّ ذراع الرجل حتى حضر مؤتمر مدريد، وساعتها لم يجد المواطن الإسرائيلي أمامه إلا أن ينتخب إسحاق رابين لكي يقوم بالمهمة التي يستحيل على شامير القيام بها. وهناك أمثلة أخرى لا تُذكر كثيرا، مثل تلك التي قام بها الرئيس الأميركي جيرالد فورد ووزير خارجيته هنري كيسنجر من «إعادة تقييم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط»، من أجل الضغط على إسرائيل للتوقيع على اتفاقية فصل القوات الثاني على الجبهة المصرية.

هل يمكن الآن توفير الظروف الملائمة لكي يكون باراك أوباما إيزنهاور آخر يقوم بالضغط على إسرائيل من أجل تحقيق التسوية؟ والإجابة هي أن الإمكانية متوافرة، والمقدمات هي أن باراك أوباما جاء إلى البيت الأبيض وهو على قناعة بضرورة حل الصراع العربي - الإسرائيلي، ومن ثم كان تعيين جورج ميتشل مفوضا منه للتفاوض حول التسوية، واستمر على ذلك الحال حتى خطاب القاهرة لرأب الصدع بين واشنطن والعالم الإسلامي. ولكن أوباما ارتكب مجموعة من الأخطاء حيث لم يدرك ميتشل الفارق بين مشكلة أيرلندا ومعضلة الشرق الأوسط، وعندما وضع التطبيع في مواجهة الاستيطان فإنه دخل طريقا مسدودا تحكمه الظروف الداخلية الإسرائيلية والعربية. وجاء قانون الرعاية الصحية لكي يكون حالة الاختبار لإدارة أوباما كلها، وفي لحظة بدا الرئيس الأميركي كأنه في طريقه إلى السقوط عندما فقد حزبه الديمقراطي مقعد مجلس الشيوخ عن ولاية ماساتشوستس الذي سيطر عليه ديمقراطيون دائما كان آخرهم إدوارد كنيدي لعهود طويلة.

الآن تغيرت الظروف وتمكن أوباما من تحقيق ما لم يحققه رئيس أميركي آخر عندما مرر قانون الرعاية الصحية، ومن بعدها عاد لكي يضع يده على كل الأمور التي تركها في يد مساعديه لفترة طويلة ومن بينها قضية الشرق الأوسط. والإشارات، والكلام لا يزال للخبير الأميركي، أصبحت الآن أكثر من أن تُحصى. فخطاب أوباما الموجه إلى مؤتمر «الإيباك» أو لجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية، ومن بعده الخطاب المباشر من قِبل وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون إذا ما تم استبعاد الثلث الأول من الخطابين الذي لا يمكنه الخروج عن تقاليد التأكيد على العلاقات الاستراتيجية بين أميركا وإسرائيل، ولكن الأهم بعد ذلك هو ما جاء في الثلثين الآخرين حيث لا توجد شبهة في أن الولايات المتحدة تضغط على إسرائيل في اتجاه الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في إطار صفقة تاريخية. أضف إلى ذلك علامتين أخريين: الأولى جاءت من رامي مانويل رئيس موظفي البيت الأبيض (واليهودي الأميركي الذي خدم في الجيش الإسرائيلي) الذي قال بصراحة ووضوح أن استمرار إسرائيل في مواقفها الحالية يضر بالمصالح الأميركية. والثانية جاءت من المؤسسة العسكرية الأميركية على لسان الجنرال بترايوس قائد قوات المنطقة المركزية الذي قال للكونغرس بوضوح إن المصالح الاستراتيجية الأميركية في العراق وأفغانستان والشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم تتعرض للأخطار بفعل استمرار الصراع العربي - الإسرائيلي. وتكررت تعبيرات تشير إلى «المصالح الأميركية» من عدد آخر من الجنرالات الأميركيين، وفي إشارات واضحة إلى أن إسرائيل تقف عقبة أمام هذه المصالح، رغم ما هو معروف من روابط وثيقة بين المؤسستين العسكريتين في إسرائيل والولايات المتحدة.

سألت: «إذا كانت الحالة السياسية في واشنطن ناضجة هكذا، فما المانع إذن من أن يتحول أوباما إلى إيزنهاور آخر؟»، وجاءت الإجابة بأن نضج الظروف لا يعني بالضرورة نتائج ميكانيكية تترتب عليها، لأن المواقف السياسية بطبيعتها ديناميكية لأن الجانب الإسرائيلي ليس ساكنا بدوره وهو يطرح موقفا يقوم على أن إسرائيل هي أولا الحليف الحقيقي للولايات المتحدة في المنطقة، أما الدول العربية «الصديقة» للولايات المتحدة فهي تقول ذلك سرا في أذن الإدارات الأميركية المختلفة، أو في الخطب الرسمية عند الزيارة لواشنطن. وثانيا أن حل قضية الشرق الأوسط كلها أصبحت ملقاة على عاتق إسرائيل التي عليها أن تقف المستوطنات، ومن بعدها تنسحب من الأراضي العربية، دون أن تعرف ما سوف يكون عليه حالها بين دول وشعوب المنطقة بعد تنفيذ ما هو مطلوب منها. وثالثا أن المبادرة العربية لا تدل على رغبة أكيدة في السلام ما دامت عبارات لطيفة لا يوجد معها «عربون» يدل على جديتها.

هذا المنطق يجد صدى في الكونغرس، ودوائر أميركية أخرى، وكلها تلعب على عنصر الوقت حتى تأتي انتخابات التجديد النصفي للكونغرس أو تظهر مشكلة أخرى تشغل أوباما بقضية أخرى. والحل هو أن تسعى الدول العربية، والدول العربية الهامة وذات التأثير في واشنطن، لصناعة إيزنهاور من خلال تحييد هذه القوى المناوئة للتسوية. وأساليب ذلك هي: أولا الضرب على وتر المصالح الأميركية الاستراتيجية وغير الاستراتيجية في العالم العربي، فحديث أنصار إسرائيل على أنها الحليف الاستراتيجي الأساسي للولايات المتحدة لا أساس له في الواقع حيث القواعد الأميركية موجودة في دول عربية لا في إسرائيل، وتأمين حركة الأساطيل والقوات الأميركية عبر البحار والمحيطات يتم من خلال دول عربية، وتعاون المخابرات والأجهزة الأمنية العربية مع الولايات المتحدة من العمق والفائدة للطرفين بحيث لا يقارن بالتعاون مع إسرائيل. والأمثلة من الخليج والعراق وأفغانستان بلا حصر، وحيث تقف إسرائيل على العكس حجر عثرة في وجه المصالح الأميركية. كل ذلك ونحن لا نتحدث عن التجارة والاستثمارات والنفط والمصالح الاقتصادية المختلفة حيث لا تزيد إسرائيل على فقاعة صغيرة. وثانيا أن المبادرة العربية ليست سلاحا دعائيا وإنما خطة حقيقية لتسوية عادلة للصراع العربي - الإسرائيلي، وكما هو الحال في كل الخطط لا بد لها من تكاليف وبرامج عمل وتخطيط للمستقبل. مثل ذلك يمكن أن يظهر، ومن خلال واشنطن، في برامج دبلوماسية وغير رسمية، يعرفها الكونغرس والإعلام الأميركي، والأهم من ذلك أن يظهر على الشاشات العربية بصدق وشجاعة.

أضف ذلك إلى الظروف المواتية التي أشير إليها من قبل وسوف تجد إيزنهاور آخر في البيت الأبيض، وهو حالة لا تظهر كثيرا في الساحة الأميركية في ما يخص الشرق الأوسط، وإذا لم تنتهز هذه الفرصة اليوم فربما لن تضيع الفرصة فقط، بل سوف يأخذ الشرق الأوسط طريقا آخر، عادة ما يكون عنيفا وداميا!