الشهادات المزورة

TT

يحفل لبنان الآن بمجموعة جديدة من «الوطنيين». يتحدثون باسم الوطنية ويحتكرون الحديث القومي ويصدرون الأحكام على الآخرين، جميعا، ما بين وطني مقبول لديهم، وما بين خائن أو عميل أو جاسوس، أو ما أشبه. ومبروك للبنانيين وللوطنية والقومية. أنا من جيل عاش في عصر خليل حاوي، الرجل الذي خرج إلى شرفته في يونيو (حزيران) 1982 فرأى الدبابات الإسرائيلية تدخل أول عاصمة عربية، فدخل البيت من جديد، وأمسك ببندقية الصيد، وأطلق النار على رأسه وعلى عار الأمة.

لم يكن سهلا على أي طالب أن ينتسب إلى سلك الوطنية. لم تكن وظيفة ولا تعيينا ولا تفويضا مثل سلك الشرطة. خليل حاوي كان جيل الصعوبة لا جيل القسوة والفظاظة. صبي يمرض والده فيعمل لإعالة أشقائه. يعمل العمل الوحيد الذي عثر عليه في قريته، الشوير، إسكافيا. أو مساعد إسكافي. ثم ينزل إلى بيروت ليعمل في البناء. يحمل الحجارة ويكسرها. وفي المساء كان ينام على كتاب. أي كتاب يمكن العثور عليه. ولم يعلم خليل حاوي نفسه العربية فحسب بل الإنجليزية أيضا. وكان يقتصد في شراء الخبز. ولا حلوى ولا قهوة ولا نزهات على البحر. عثر لنفسه على غرفة خشبية في أحياء الصفيح. راح يدرب نفسه كيف تصبح شيئا عظيما ينهض من ركام الفقر وأزقة اليأس. لن يبقى هنا مع المتعبين الذين يشقون في النهار ويستريحون في الليل. لن يستريح.

جمع خليل حاوي ما يكفيه لدخول الجامعة الأميركية. وتفوق بحيث ذهب يعد للدكتوراه في جامعة كمبريدج. وعاد إلى الجامعة الأميركية أستاذا للأدب العربي وشاعرا رائعا، لا أحد مثله يعرف معنى اليأس ولا أحد مثله يعرف معنى الأمل. وظلت في شعر خليل حاوي صلادة الصخور وحدة الحجر ودقة الزاوية. لكنه كان شعرا جميلا وآخريا. شعرا يرى من خلاله أعماق الناس وعار الأوطان وارتخاء الأمم. ولم يعش لنفسه، بل قسم حياته القصيرة بين الهواجس والأحلام. مرارة الهاجس ومرارة الحلم.

كل هذه الحياة الإسكافية المعمارية الجامعية الشعرية لم تدم أكثر من 62 عاما. أحزن ما فيها أنه ختمها بألم الأمة. وأسوأ ما فيها أن من بعده صارت الوطنية شهادات مزورة يحملها الفاشلون والكسالى الذين ما سعوا إلى شيء إلا الرخص والنفاق.