هل قلت: بيروت عاصمة عالمية للكتاب؟

TT

تستعد بيروت لوداع لقبها كـ«عاصمة عالمية للكتاب» بكثير من الأنفة والاستعراضية. لقب «طنان»، «رنان» استحق كلفته ما يربو على سبعة ملايين دولار. ومع أن الثقافة لا تقدر بالدولارات، والكتب كنوز مكنونة، فإن السؤال عما جناه لبنان من هذه الاحتفالية «العالمية»، أمر مشروع وواجب. فليس بالبهرجة وحدها يحيا الإنسان، ولا بالمشروعات المستوردة من «اليونسكو» والجمهورية الفرنسية، تتقدم الأمم. فقد سبق لبيروت أن جربت حظها كـ«عاصمة للثقافة الفرانكفونية» ورقصت وغنت وقرأت بلغة موليير، عاما كاملا، حتى ظننا أن اللبنانيين يرطنون الفرنسية بأحسن من العربية، ثم جاءت «الدورة السادسة للألعاب الفرانكفونية» التي احتُفي بها في بيروت، منذ أشهر، وصرف عليها كل غال ونفيس، لنكتشف أن تراجع الفرنسية أمام الإنجليزية في بلاد الأرز لم يعد بحاجة إلى دليل أو برهان. وتجربة بيروت كـ«عاصمة للثقافة العربية» لم تكن أوفر حظا، منها في دمشق والجزائر والخرطوم ومسقط، مجرد حفلات، تهب كالعاصفة المحمومة ثم تخبو وكأنما ابتلعها تنين. والاعتراض ليس فقط على «حركة بلا بركة» وإنما على هدر بات من سمات هذا النوع من الأعياد المستوردة من أوروبا والتي تستمر أشهرا، تستنزف خلالها الطاقات والأخيلة، لنجد أنفسنا في نهاية العيد، كما في بدايته، لا، بل أسوأ حالا بعد أن ضيعنا الوقت، وتبخرت الملايين.

يدافع المنظمون عن أحتفاليات كهذه، بأن أموالها، تشغّل شركات الطيران التي تنقل الضيوف، وتنشط المتعهدين، وتحقق فرص عمل ولو مرحلية للفنانين. وهذا موضوع آخر. فهل نحن أمام غطاء ثقافي لبضاعة تجارية؟ وإن كان الأمر كذلك، فلماذا لا نبحث عن بضائع لها مردود أكبر؟ الإجابة دائما، أن ثمة ما يعمل لتنمية ثقافية مستدامة بعد انقضاء موسم العيد، وهو ما لم نره بأم العين، أو نلمسه، ولم يُعنَ أحد بأن يوضحه لنا بالدلائل والأرقام، أو حتى ببعض المؤشرات.

المقارنة بين الوعود المعسولة والنتائج الخمولة ليست مشجعة، فها نحن في نهاية احتفالية «بيروت عاصمة عالمية للكتاب»، ما عدنا نعرف أين نذهب، ولدعوة من نستجيب، لكثرة المحتفلين والمبتهجين بالكتب، في كل محافظة ومنطقة. وهي مفارقة عجيبة في بلاد، قراؤها قلة باعتراف المكتبات، وشهادة الناشرين، ولا يبدو، على الإطلاق أن عدد هؤلاء القراء، الذين ينتمون إلى فصيلة من المنقرضين، قد ارتفع، أو أن محبي الكتب قد تناموا، في غفلة من الزمن.

قامت منسقية هذه الاحتفالية، بما يمكن لها أن تفعل، في ظل الشروط والإمكانيات المتوفرة، وطلبت من المؤسسات والجمعيات والأفراد أن يتقدموا باقتراحاتهم، ومولتها، وتركت لهم حرية الابتهاج على طريقتهم، وروجت لهم في الإعلام، وغطتهم بدفء رعايتها، لكن هذا لم يجعل من اللبنانيين شعبا قارئا أو أكثر فضولية.

يشبه ما يحدث في الثقافة، ذاك التهلهل الذي يعتري الجسد اللبناني المهترئ في كل ميدان، فالرغبة قوية في تنمية السياحة، دون وجود طرق سالكة مأمونة، وكهرباء معفاة أو حتى مياه نقية، في بلاد الأنهار والينابيع. وثمة من ينادي المستثمرين كل صبح ومساء بالقدوم، مع أن الخبراء يتحدثون عن ضيق المجالات الاستثمارية، حتى باتت محصورة بالعقارات والأراضي، التي تقفز أسعارها كالعفاريت المرعبة، لما يتدفق عليها من أموال، مع ضيق المجالات الأخرى. واللبنانيون يريدون خدمات للإنترنت تضاهي أوروبا، لكن التمديدات لا تزال كخيوط العنكبوت فوق المباني وعلى حيطانها، ولم يفكر أحد بأن يعمل على بنية تحت أرضية متينة تجعل الإنترنت تتدفق كالمياه والكهرباء، في الدول العفية.

لا بد أن يتساءل المواطن، بعد أن يستفيق من عيد الكتاب «العالمي»، عن بنيته الثقافية التحتية، أن يستفهم عن سبب حرمانه من وجود مكتبة وطنية، تنتظر محتوياتها في الأقبية الرطبة، والغرف المظلمة. لا بد أن يتساءل أيضا عن محفوظاته الوطنية، وأرشيفه كمواطن في دولة تُعنى بذاكرته، وتوثق للخارج من مطابعه. هل يكفي أن تكون بيروت مطبعة العرب؟ وما معنى أن تكون المطبعة بلا تاريخ؟ لقد بُحّ صوت الفنانين وهم يطالبون بـ«متحف للفن الحديث»، الذي تتقاسم لوحاته حيطان الوزارات ومستودعاتها، في ما يوزع بعضه على المحاسيب والأقرباء.

غدا، قد يسعى وزير جديد وطموح، للإتيان بعيد سنوي جديد - ولم يبقَ لبيروت على ما يبدو من الاحتفاليات العالمية، بعد أن أدت قسطها كاملا إلى العلى، سوى الاحتفاء بنفسها كـ«عاصمة للثقافة الإسلامية» - وهي لن تمانع أو تتردد، بعد أن بجلت الفرانكوفونية، وهي تعانق الأنغلوسكسونية. أوَليس لبنان تعدديا بما يكفي، ليتبنى كل الدعوات، ويشرّع مختلف الرايات؟ وقد لا تكون الفكرة سيئة هذه المرة، شرط أن تكون مناسبة لدراسة أخطاء الماضي، والتوقف عن تمويل الاستعراضات ذات الوجه الثقافي، لصالح ما يبقى ويدوم. ففي لبنان من المباني والآثار الإسلامية ما يستحق أن ينفض عنه الغبار، وأن ترصد له المليارات وليس الملايين. وهذا قد يذكر اللبنانيين، بأن لهم انتماء حقيقيا إلى المنطقة والجغرافيا، ويعيدهم لفهم تاريخهم وبنيتهم الذهنية.

أما وأن احتفالية الكتب العالمية قد انقضت، ولم يبقَ لنا سوى التصفيق مع المهللين، فلربما هي فرصة، لنتذكر جميعا أن في الثانويات اللبنانية أميين، ونحن نعني ما نقول. وليس على وزير التربية، وهو أستاذ جامعي ويعرف عمَّ نتحدث، سوى أن يستكمل هذه المناسبة بمشروع وطني تربوي، صادق وحقيقي، يخرج الطلاب اللبنانيين، من غياهب الأمية المقنَّعة ويدخلهم عالم الكلمة برحابته وأفقه المفتوح، وبعدها سيكون لأعياد الكتاب معناها ونكهتها التي لا تضاهى. أما اليوم، فبالاعتذار من كل المتحمسين لمشروعات «اليونسكو» وأعيادها المستنسخة والمجلوبة، فهي لا تناسب مقاساتنا، ولا تتماشى وقاماتنا الثقافية الهزيلة.